هل حقاً
أن الله يحلف بالتينة والزيتونة؟!..
كان العرب في الجاهلية أمة تعيش على هامش
التاريخ، وتقتات على فتات موائد الأمم، تضيع في خضم واسع من رمال الصحارى التي
تؤويها، وكافة الأكاسرة والقياصرة ينظرون إليهم نظرة لا تختلف عن نظرتهم إلى البهائم
الضالة، أو الحيوانات الشاردة، فلا وزن لهم ولا قيمة.
يعبدون الشِّعر، ويجعلونه على كعبتهم، ويحجون
إليه من كل حدب وصوب. بيت من الشِّعر يرفع إحدى القبائل عندهم إلى أعلى ذرا المجد،
وبيت آخر يهوي بها إلى الحضيض.
حتى نزل الوحي، أي الذكر الحكيم، فتصاغر الشِّعر
أمامه حتى ذاب خزياً وخجلاً، وتوارت فُحوله فغدت لا أثر لها بعد عين، وغض البيان
طرفه وتراجع مخذولاً، حتى قال أفصحهم في القرآن: ‹إن أعلاه لمغدق، وأسفله لمونق،
وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة..› نعم إنه كتاب أحكمت آياته، لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه، ولا شبه ولا شِيَةَ فيه. لا يمسُّه إلا المطهرون، ولا يذوق
ما فيه إلاَّ مؤمن بلا إله إلاَّ الله، من تمسَّك به نجا، ومن تركه إلى غيره هلك.
لا تنقضي عجائبه، ولا تفنى غرائبه، ما من أمة تمسكت به، وعملت بما جاء فيه، واهتدت
بهديه إلاَّ وسادت أمم عصرها، فدانت لها الأرض وانحنت لها الرقاب.
صحْب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام،
دحروا أعظم دولتين ضاربتين بالعالَم، بجيش ضئيل العَدَد، شحيح العُدد، بفترة لا
تتجاوز الشهور في معركتي القادسية واليرموك: {..كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ..}[29].
وأَذِنَ الله بتطبيق ما في كتابه والسير بهدى
تعاليمه.
وكذلك الأمة الكردية في عهد صلاح الدين، وحتى
المماليك في عهد سيدنا الظاهر بيبرس، والدولة العثمانية سمت وسادت، وما كانت لتخبو
جذوتها وتندثر بيارقها، لو لم تستبدل قوانين الخالق جلّ وعلا بقوانين المخلوق.
وعلى مرِّ الأجيال وتتابع القرون يعلنها القرآن
تحدِّياً: صرخةً مدوية، على أن يجتمع الإنس والجن ويكون بعضهم لبعض ظهيراً،
بلغاؤهم وفصحاؤهم والعباقرة فيهم، فليأتوا بمثله أو أثر منه، فعجزوا ولم يفلحوا
أمام القرآن، هذه المعجزة الجبارة الخالدة، والتي تشهد بعظمته وقدرته تعالى.
سأل سائل:
طالما أن القرآن معجزة القرون، وعظيم فوق عظمة
كل عظيم، ولا يستطيع مخلوق بالغاً ما بلغ الاتيان بمثله، ولا مطمح لمتحدٍّ إليه،
فعلامَ نرى الضعفَ والركاكة والضآلة والسخف، في شروح معانيه الظاهرة بالتفاسير
الشهيرة كلها، حتى فقدنا قيمة القرآن المعجز، بل أشاح الناس عنه لضآلة ومسخ تلك
التعابير. المعروف شمولياً أن العظيم لا يقسم إلاَّ بعظيم حقاً، أو بأعظم منه.
فالسلطان يقسم برأس أبيه السلطان الذي هو أعظم منه، أي بعظيم عليه، ولا يقسم بمن
هو أدنى منه، لأن ذلك ينقص من قدره ومقامه. وتأبى عظمته اللانهائية وجلاله القسم
بالكون العظيم علينا، فهو تعالى لا يقسم به ولا بسماواته وما فيها فهو يبين لنا:
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}،
مع أن هذا القسم علينا جدُّ عظيم: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ
عَظِيمٌ}[30]، بل يقول تعالى:
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا
لَا تُبْصِرُونَ}[31]: فهي تجاه عظمتي لا تذكر، تجاه ما أعددته لعبادي
المتقين، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إنما الكائنات أثر
بعد عين، لذا حاشا لله العظيم، وجلَّ وتعالى عن أن يقسم بمخلوق يموت ضعيف يحتاج
إلى القوت، لا حول له إلاَّ بالله العظيم ولا قوة، ولا يملك لنفسه بقاء ولا غذاء،
إلاَّ بما يمدُّه به الرزاق العظيم، خالق الشمس وموجد البحار، خالق الرياح والسحب
ومسيِّرها ومسخرها، مغيث المخلوقات بالأمطار الواحد القهار، لاسيما إذا كان ذلك
المخلوق المُقسم به بادِّعائهم دون الإنسان الكامل بالقدر والمقام، إذ لم يحمل
الأمانة، ودون المكلفين من بني الإنسان، بل هي كائنات مسخرة له، كالتينة
والزيتونة، بل وغيرها من المخلوقات المسخرة والتي هي أدنى من الإنسان، فهي لم تحمل
الأمانة التي تصدى لها:
كالضحى، والشمس، والقمر، والليل والنهار،
والعصر، والفجر وليالٍ عشر، ويقولون أن الله العظيم يقسم بها!!.
بل يستنكف أحدنا نحن المخلوقين بني البشر أن يقسم
بالفجلة والتينة والبصلة والزيتونة، فينظر إليه السامعون إن أقسم مثلاً بالفجلة أو
الزيتونة، أنه معتوه، أو مدقع بالفقر والبؤس والحاجة والحرمان حتى يرى لإفلاسه،
عظمةً للفجلة أو الزيتونة، كونه جائع محروم.
فنحن لا نقبل بهذا قسماً، فكيف قبلها وقالها
هؤلاء المفسرون ونسبوا القسم المزري المهين للعظيم حقاً، رب العزَّة؛ ربّ السماوات
العلى، خالق الأكوان ورب العرش العظيم، عن أن يقسم بشيء مزرٍ مهين، يخفِّض من شأنه
جلت عظمته وقيمته بهذا القسم، أي هل يصنع أحدنا دمية "لعبة" ثم يحلف
مقسماً بها؟!.
هل هذا مقبول؟! أم معقول قولهم طالما أنه صنعها،
فله الحق بأن يحلف أقساماً بها؟! فيكون جواب كل عاقل: نعم هؤلاء لا يعقلون ولا
يفكرون بمَ يتقولون عن رب العالمين؟!.
أهكذا يكون التفسير المليح، وبرأيهم صحيح، ذم
ربِّ العالمين تخفيضاً لا يقوله ولا يسمعه بشر فيه ذرة من تفكير، والعاقل يعرض عنه؟!.
هل يليق بربّ العزَّة هذا القول الرخيص.
أوَليس هو قول متهكِّم هازئ ساخر مَهين، وأحدنا
لا يرضى ولا يقبل أن يُقسم أو يقال أنه أقسَم بفجلة أو تينة.
هذه التفاسير التي تقول عن الواو التي تسبق
كثيراً من أوائل الكلمات لسورٍ من جزء عمَّ وغيرها أنها واو القسم، كيف وقعوا في
هذا الخطأ الجسيم؟! أصلحهم الله وهداهم وردّهم إلى وجه الحق والحقيقة والدين.
فقد تَركَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على
بيضاء نقية ليلها كنهارها، لا يضل عنها إلاَّ ضال.
السلطان لا يقسم إلاَّ برأس سلطان، والعظيم لا
يقسم إلاَّ بعظيم، فهل يعقل أو يمر بالأذهان أن رب الملك والملكوت رب العزَّة، أن
يقسم بزيتونة أو تينة؟!.
هل نقبل قَسَمَ النجار بكرسي أو بمنضدة صنعها؟!.
ولو أقسم بهما ألا يكون موضع السخرية وحكاية
يتندَّر بها الناس في مجالسهم؟!.
ثم لمن يقسم تعالى على زعمهم؟ ألكفار قريش
ومشركيها؟!.
تُرى ألا يسخرون؟! ألا يستهزئون؟!.
وإذا ما مرَّ القسم مسبوقاً بلا النافية، يزعم
البعض أنها زائدة ولا عمل لها.
إذن لماذا أوردها تعالى في كتابه العزيز؟!
والزيادة أخت النقصان، ألا يكون ذلك عيباً في كتابه "لو قبلنا
بزعمهم"؟!.
وكمثال: على زعمهم في قوله تعالى: {لَا
أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}: أي أقسم بهذا البلد وأن "لا" زائدة لا
عمل لها، فمعنى ذلك أنه في قوله تعالى لرسوله الكريم: {..وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِماً أَوْ كَفُوراً}[32]: أي على زعمهم بأن "لا"
زائدة أي: "أطع منهم آثماً أو كفوراً"!.
أو: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ *
هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[33]:
أي "أطع كل همَّاز مناع للخير معتدٍ"! لأن "لا" بزعمهم
زائدة!..
تعالى الله ورسوله عن ذلك علواً كبيراً، وكيف يكون
الكتاب محكماً إذا كانت فيه زيادة أو نقص؟! حتى قوانين اللغة لا تسمح بذلك، وإذا
سلَّمنا بذلك أصبح النفي إثباتاً، والإثبات نفياً، فتضيع المفاهيم والمعاني
السامية، ويغرق الناس في القيل والقال، وكثرة الخلاف، فيشيحون عن كتاب الله
العظيم، ويصبح القرآن مهجوراً. وإذا ما تركنا القرآن إلى غيره، إلى أين نصل؟..
وقانا الله وإياكم من ذلك.
وبعدُ، كيف نخرج من هذه المعضلة؟ أأقسم الله
تعالى بمخلوقاته، أم لا؟.
لنعد إلى جوهر بحثنا:
الحقيقة أن كلمة (عَمَّ) الواردة في سورة
عَمَّ هي المفتاح لفهم وإدراك وشهود المعاني العالية الواردة في جميع آيات السورة
الكريمة، بل وبجميع السور التي تليها: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ
إِذَا تَلَاهَا}.. وغيرها، كلّها عمَّت وشملت عباد الله جميعاً، وعلى العموم
ودون تمييز أو حرمان لأحدٍ من نفعها وفوائدها: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء
وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً}[34].
(عَمَّ): أجل لقد عمَّهم الله تعالى
بفضله ورحمته وحنانه، وعطفه الدائم وتسييره الخيِّر لهم وللخلائق المسخَّرة لهم
أيضاً.
أما المعرضون من قريش و من أتى بعدهم فبالرغم من
كل هذه النعم الظاهرة والباطنة التي إن فكروا بها، توصلوا منها للعظيم جل وعلا،
وبالرغم من هذه الحقائق التي ينبئهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم
يتساءلون مستنكرين كل ما أنبأهم به صلى الله عليه وسلم من عناية الله تعالى بهم،
وما عمَّهم به في تفضُّله عليهم بهذا الخلْق البديع الكامل، وما زانهم به من
نِعَمٍ لا تحصى، كنعمة البصر والسمع والذوق والشم والحواس الأخرى، ورعايته إياهم
في بطون أمهاتهم، ثم ما هيَّأه لهم من الحليب في أثداء أمهاتهم بعد إخراجهم
لحيِّـز الوجود، وما خلق لهم من أم وأب وإخوة لينسرُّوا مع بعضهم البعض، وينبسطوا
ويتعاونوا، وما حباهم به تعالى من حنان وحب صبَّه بقلوب ذويهم.. فرحمهم به في بليغ
ضعفهم، و نمَّاهم بنعم ودلال، كما سخَّر لهم الشمس والقمر والنجوم و الكواكب
بأمره، وخلق لهم في الطبيعة الطيور يمتعوا سمعهم بموسيقا شدوها الرائع، ويستنشقوا
عبير الفلِّ والزنبق والورود والزهور الناضرة، ويتذوقوا اللذائذ بحواسهم، فإن
ذكَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصل بهم إلى خالقها، خالق الجمال والخير
والنعيم، بهذه النعم المتواردة من خالقهم خالق الكون، إذ هم يستنكرون ويستكبرون،
ويتساءلون عن صدق هذا البيان والدلالة، مستكبرين أنها توصلهم للعظيم، مع أنها
أوصلت سيدنا إبراهيم وكافة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين المقرِّين والمعترفين بما
عمَّهم به تعالى من جليل العناية، وعظيم الرعاية، فالتفتوا إلى ربهم بصدق، طالبين
لقاءه ورضاه، فنالوا أمنيتهم الغالية، ومن طلب ربه لاقاه، ونال أقصى مناه، فهم له
تعالى شاكرون ذاكرون، ولنصائحه مصغون، وليسوا كهؤلاء المعرضين مستنكرين.
فمن طرف حضرة الله، أتمَّ نعمه عليهم، أي عمَّهم
بها بالمحسوس وبالملموس. وبالرغم من ذلك فهم يعاندون ويعارضون الواقع المحسوس،
فمعارضتهم مردودة عليهم. وبقية هذه السورة توضح وتفصِّل ذلك، بما لا يدع لعاقل
مجالاً أن ينكره. هذا وقد قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة: (عَمَّ)
مطلقة لشموليتها، لأن ما عمَّ الله تعالى به الخلائق لأجلنا لا حدَّ ولا عدَّ ولا
نهاية له: {..وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا..}[35].
وهي عامة كاملة للخلائق على حد سواء، فالأرض
جعلها مهاداً للجميع، والجبال أوتاداً لها من أجلنا، وجعل كل مَن خلق أزواجاً،
ليتنعموا ويسعدوا جميعاً، وجعل النوم للجميع راحة وقطعاً للتعب والإرهاق، إلى آخر النعم
المذكورة في هذه السورة رحمة وحباً بنا جميعاً.
لقد عمَّ فضل الله وإحسانه وحنانه وعطفه وتسييره
الخير لسائر خلقه.
هكذا يفهم المؤمنون بما عمّهم وعمَّ الخلائق
جميعاً من فضل هم به يقرُّون. ومع ذلك يتساءل المعرضون، هل عمَّنا الله بفضله
وعطائه؟! يقولون عمَّ؟ هكذا يتساءلون بل يظنون أنه قد أعطى وحرم ومنح وهضم!...
وخلق مفارقات عجيبة بين غني وفقير، وصحيح وعليل،
وأكبر وأصغر، وأعلى وأحقر، وأقوى وأضعف، فهم في حقيقة أمرهم ينكرون بتساؤلاتهم ما
يظهره لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رحمة الله وحبه لهم، بل ويتساءلون مستنكرين:
هل عمَّ بالحق والعدل، أم ميَّز و حابى؟ قبل أن يعقلوا أسماء الله الحسنى وحكمته
البالغة من السمو والرفعة والخير بكل مخلوق خلق،وحبَّه تعالى الكامل، وعطفه الشامل
على الكل، ثم قرَّبه بالحق والاستحقاق، أو منع عنه أو عن غيره بغية خيره، لما فيه
شفاء نفسه، ليكسب الحياة الأبدية بالجنات العليَّة السرمدية.
هذا وفي حال استرسالنا ببقية السورة يتوضح لنا
أن الله عمَّ وشمل الخلائق كلها برحمته، وكلأهم جميعاً بعيون رعايته وفضله: {أَلَمْ
نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ
أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً *
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً *
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء
ثَجَّاجاً}. فالواو الواردة قبل كل آية إنّما هي واو العطف لا واو القسم، فهي
واو العطف والترادف، تبين عطف الله الرحيم على عباده، وترادف وتتالي خيراته وبره
وإحسانه.
هذا وفي حال بلوغ الإنسان مراتب القرب من ربه
الحنَّان المنَّان، يجد أن جميع السوَر التي تأتي بعد سورة النبأ ما هي إلاَّ
تفصيل وشرح وتبيان عالٍ كريم للمعاني السامية العليَّة لكلمة (عَمَّ). وكل
واو هي واو العطف كآيات: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا
تَجَلَّى}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}.
النازعات:
ففي سورة النازعات: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً
* وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً *
فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً}.
أراد الله أن يعرِّف هذا الإنسان بذلك النظام
الذي بموجبه تنزل الأمطار التي تتوقف عليها حياته. وأن يعرِّفه بتلك الإرادة
الحكيمة الساهرة على هذا الكون، تلك اليد القديرة القائمة على تسيير ما فيه دون أن
تسهو عنه لحظة أو تنام.
والواو التي في أول هذه الآية والتي سموها واو
القسم خطأ، إنما هي تشير إلى عظمة الشيء المذكور بعدها، فإذا فكر الإنسان فيه
وتعمق في التفكير امتلأ قلبه بعظمته، وبالتالي فإنه ينتقل منه إلى تعظيم خالقه
وموجده. وبمثل هذا التفكير المبني على المشاهدة والتأمل يحصل الإيمان. فالواو إنما
هي للعطف على ما قبلها، مما عمنا الله به من خيراته وجزيل فضله وإحسانه. وإشارة
ولفْت نظر الإنسان لما بعدها، وفيها عطف على سابقاتها من الآيات والسوَر التي تلي
سورة عمَّ.
وهنا يتبين ويتجلى تمام الترابط في القرآن،
وكمال الكمال، فحينما نقرأ قصة، نراها مترابطة متآزرة معانيها، لا تفكك فيها، ولا
خروج عن المعنى، والمثل الأعلى لكلام الله العظيم.
ففي سورة النازعات يلفت تعالى نظرنا إلى أشعة
الشمس، كيف تنزع الماء من البحر غرقاً بلطف وخفاء، حتى تكاد لا تدركه العيون حين
تغوص أشعتها بالماء لتخرجه بخار ماء، ومن ثم كيف تنشط الرياح حاملة تلك الأبخرة من
سطح البحر، مارةً بطبقات الجو بخفة ونشاط، حتى تصل بتلك الأبخرة إلى سماء الغيوم
وحدها بنشاط: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً}: وبقانون ونظام، في أوقات محدودة،
بسرعة معينة وبصورة لطيفة. ومن ثم كيف تتشكل الغيوم سابحة عائمة على متن الهواء
سبحاً لطيفاً: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً}: فالقطعة الواحدة من السحاب تحمل
بين طياتها قناطيراً مقنطرة من الماء، ومع ذلك فهي تجري بيسر وخفة، دون أدنى ضجيج
ولا إزعاج، متسابقة إلى حيث شاء الله لتهطل، فينمو الزرع ويمتلئ الضرع، ويجري
النهر ويملأ البئر، وتقوم الحياة الرغيدة، فتؤمِّن لك لذيذ طعامك وطيِّب شرابك.
ففي هذه الآيات لفت منه تعالى لهذا الإنسان، إلى
عظمته جل وعلا، ومحبته لنا، وإرادته الحكيمة لاجتذاب سمعه إلى موعظته تعالى ونصحه.
الحقيقة أنه تعالى وحده لا يد ثانية معه، بيده
السموات والأرض، والرياح والسحاب، موجد الماء، مقلِّب الدورة المائية، مخرج النبات
والثمار. هو وحده يطعمنا ويسقينا، هو ربنا لا ربَّ سواه، بغيتنا دوماً طاعته
لرضاه.
هو الأحق علينا من الكل، وإليه بعد الانتقال
أيضاً مصيرنا.
البروج:
أيضاً في سورة البروج ساق لنا تعالى في مطلع هذه
السورة ما يدلنا على عظمته وجلاله وعطفه، لتذعن نفوسنا إليه، من عظمة ما سخر لنا
تعالى، وتصغي قلوبنا إلى كلامه، فقال سبحانه: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ}
وهي تلك المجموعات النجمية العظيمة، التي تحل الشمس فيها متنقلة على حسب أشهر
السنة الشمسية.
نجم واحد منها المسمى بقلب العقرب أكبر من الأرض
بأكثر من سبعين مليون مرة، ولو أنه حل مكان الشمس لملأ الفراغ الكائن بين الشمس
والأرض، ولكانت الأرض نقطة فيه!.
فما هذه القوة التي تمد هذا النجم بالضياء
والحرارة؟! لا بل ما هذه القوة التي تمد سائر النجوم وتحملها وتسيِّرها؟! ما هذه
القوة التي تربط نجوم كل برج ببعضها رغم أبعادها الهائلة؟!.
فأقرب نجم منها يبعد عنَّا أربع سنوات ونصف سنة
ضوئية. أي بعدٌ لا يكاد أن يتصوره عقل، أو يدركه فهم من لم يصل بعد للتقوى، أي
الاستنارة بنور الله العظيم.
ولو أن نجماً واحداً منها زال وانعدم لاختلفت
مواضع النجوم واختل نظام السماء كلها، ولما سارت الأرض سيرها ولأصبح العالم
خراباً، ولكان بقاؤه على ما نحن عليه الآن مستحيلاً، فما أعظم المسيطر عليها
والمسيِّر بيسرٍ لها!..
فإنك أيها الإنسان إذا نظرت في السماء ذات
البروج، وعرفت قدر خالقها الذي أوجدها وأحكم صنعها، فتوجهت بقلبك إليه تعالى،
ولمست وجوده تعالى النوراني وعالي بهاه، أيقنت نفسك بوجود الإله، وعلمت أنه موجود
يقيناً، فلا بدَّ إذن أنه سيسألها تعالى، ليجزيها على ما قدَّمت من أعمال بدنياها،
فهنالك تؤمن باليوم الآخر وهو: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}: فتعلم أنه حق،
وأن هذا الخالق العظيم قادر على خلقك ثانية وإعادتك. فتحذر عاقبة الأعمال، إذ تعلم
أن الذي خلق النجوم وجعلها بروجاً وجمعها بقدرته هذا الجمع البديع، قادر على أن
يجمع الشاهد والمشهود ويوقفهما للحساب بين يديه في ذلك اليوم الموعود الذي لا ريب
فيه. فالواو بآية: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ} معطوفة على ما قبلها من
الآيات، كآيات: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً *
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا
النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا
سِرَاجاً وَهَّاجاً}: فهي واو العطف، وهي تبين عطف الإله علينا، وتتابع عطفه
وعنايته الحبِّية البالغة بنا، يذكِّرنا رسوله صلى الله عليه وسلم بها لنتوصل منها
إلى ربها، كي نطيعه ونستقيم، فيكرمنا بجناته العلا.
الطارق:
وفي سورة الطارق أراد تعالى أن يلفت نظرنا إلى
السماء، وما ينبعث عنها من الخيرات، فقال: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ}.
فهذه الواو واو العطف، ترينا بالغ عطفه تعالى
وحَدَبه علينا، وما يكلؤنا به من طعام وشراب بواسطتها، ويده تعالى وحده المسيطرة
عليها بجمال وكمال ونِعمٍ لأجلنا. لأجل طعامنا وشرابنا، ولولاها لما أكلنا لقمة،
ولا طمحنا لقطرة ماء عذبة، أو لأنهار دفَّاقة. هذه الواو واو العطف، تعطف نظرنا
لباهر ضيائها ولألاء نورها، وفيوضات خيراتها، وكل ما على الأرض من نتاج السماء،
إنها تلفت نظرنا إلى السماء، وليس فيها أي مجال لقسم.
هذا وإن القلم ليعجز عن كتابة ما في السماء من
آيات، ففكِّر أيها الإنسان فيها، وراجع التفكير مرة بعد مرة، لعلك تقدِّر خالقها،
وتستعظم ممدها ومربيها.
يقول تعالى: انظروا عبادي في السماء، وما يأتيكم
عنها وبسبب وجودها، من الخير المتواصل المنبعث عنها، الذي لا يحصى ولا يدرك له
حدّ، وكله من الفضل الإلهي الحبِّي المتوارد علينا بواسطتها..
وبعد أن لفت تعالى نظرنا إلى السماء التي لا
تتناهى، وبعد أن ذكَّرنا ما يعرِّفنا بعظيم شأنها، وبما ينجم عنها من الخيرات
اللانهائية، حذَّر الإنسان من الفسوق والعصيان، وعرَّفه بأن صاحب هذا المقام
والشأن الكبير، لا يصعب عليه أن يحصي على الإنسان جميع أعماله، فقال: {إِن
كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[36].
أي أليس يشهد هذا الكون العظيم بأن خالقه قادر
على أن يحصي على كل نفس عملها؟!. هل نسي نفساً من خلقها ورزقها وإمدادها؟ فهو قادر
أيضاً على إحصاء أعمالها ومنحها استحقاقها.
الفجر:
أما في سورة الفجر، فقد بدأ تعالى هذه السورة
بآيات تعرِّف الإنسان بخالقه وموجد هذا الكون كله ومسيِّره، فلعله إذا فكر في ما
يراه من الآيات الكونية، توصل منها إلى الإيمان بربه، وهنالك يستقيم على ما أمره
وينتهي عن طغيانه وضلاله، فينقلب إنساناً إنسانياً في صفاته وأعماله، وبذلك يجر
الخير لنفسه، ويدفع الخسارة التي كانت لاحقة به، ولذا وحباً بك أيها الإنسان خاطبك
ربك بقوله:
{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ *
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ
لِّذِي حِجْرٍ}.
وآية: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ}:
أي لا تحتاج هذه الآية لقسم فأين واو القسم؟ وأين القسم؟!.
إذن: ما دام الله تعالى ينفيه بقوله هل في ذلك
قسم لذي حجر؟! أبعد بيانه تعالى بأنه لا قسم، هل هناك ثمَّة حاجة لبيان؟!!.
فالفجر هو الظهور بصورة متلاحقة تدريجية، وهو
أيضاً كل شيء يظهر من الخفاء إلى العيان متلاحقاً متتالياً.
فانظر أيها الإنسان إلى كل ما يظهر ويخرج بصورة
متتالية من المواد والأثمار التي بها حياتك وبقاؤك، ثم فكر ودقق وتعمق في التفكير
بذلك، فكر في هذه الحركة الدائمة، والنظام القائم الذي بموجبه تخرج النباتات،
وتتوالد الثمرات فترة ففترة، وآناً بعد آن. إنه لو لم يكن خالق يخلق، وموجد يوجد،
لما استمر السير، ولا نقطع الظهور والخلق، ولصار العالم كله إلى اضمحلال. فكر في
ذلك كله تهتدي منه إلى خالقه، من النِّعمِ إلى المُنعِم الرحيم المتفضل.
التين:
في سورة التين أراد تعالى عطفاً منه علينا ورحمة
أن يلفت نظر الإنسان إلى الخيرات التي يودعها ويبثها له في المخلوقات، فلعله إذا فكر
بها انتقل منها إلى تعظيم خالقها وموجدها، فكان له من تعظيمه سبباً لوجهته وإقباله
وسعادته. لذلك قال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}: فبواو العطف التي
سبقت "وَالزَّيْتُونِ": يريد بذلك لفت نظر الإنسان وتوجيه تفكيره إلى ما
في ثمرتي التين والزيتون من عظمة الخلق والخيرات التي بثَّها تعالى بهما.
فلو نظر الإنسان إلى هذه الثمرة مفكراً في كيفية
تلقيحها وانعقادها، لوجدها أمراً عجيباً، الحلاوة التي فيها بعد استوائها ونضجها،
وطعمها اللذيذ وهي تخرج من الخشب وليس في الخشب، من ذلك شيء!!.
وأما الزيتون وما احتوى عليه من مادة دهنية،
وليس في التراب الذي يتغذى منه دهن ولا زيت، فمن الذي أودع فيه الزيت وجعل له هذا
الطعم اللذيذ؟.
فتتالي هذه الآيات وعطفها يدلُّك على نفي أي
قسم.
من الذي أخرج نبتة الزيتون الضعيفة من تلك
النواة القاسية الصلبة التي لا تتكسر إلا بعد جهد جهيد؟ ما هذه القناطير المقنطرة
من الزيت و الزيتون التي تجود بها شجرة الزيتون التي تعيش وتعطي وتمنح الزيت
والزيتون وتعمر مئات السنين؟.
ذلك كله إنما انطوى في تلك النواة الصغيرة التي
تلفظها من فمك غير ناظر ما أودعته فيها يد الخالق العظيم، والمدبر الحكيم، ففي
ذكره تعالى للتين والزيتون تبياناً لما انطوى فيهما من حكمة الحكيم العالية، وقدرة
القدير العظيمة، وفضل ونعمة منه تعالى وغذاء لعباده، وهو وحده تعالى منبع تلك
الخيرات الذي يفيض بهذا الفضل الواسع والنعمة السابغة،وهي سبب للإيمان بمن وراءها
جلَّ كرمه ودام لك، إن آمنت به تعالى.
- وفي سورة الضحى وسورة الليل وسورة الشمس
وغيرها طائفة كريمة عظيمة، من الآيات الدالة على فضل الله عليك، وعظيم رعايته لك
وحنانه المستمر دون انقطاع. نعم إنها جميعها تدلُّك على فضل ربك عليك، وتحذرك من
الإعراض عن مصدر العطاء العالي الكريم، ونتائجه الخطيرة عليك دنيا وبرزخ وآخرة.
وتبشِّرك في حال إقبالك عليه، بجنة عالية قطوفها
دانية، لا تسمع فيها لاغية. إنها آيات تبين لك طريق الحياة الأبدية والسعادة
السرمدية، تحت لواء رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي دلَّك هذه الدلالة
القرآنية العليّة، فلسان حال المؤمنين ينطق بالحق والإقرار بسورة عمَّ، وكلمة عمَّ
أي:
نعم عمَّ الله عباده ومخلوقاته جميعها وكلأهم
بعيون رعايته، كما عمَّنا وشملنا بفضله الواسع العميم.
أما لسان حال المعرضين الضالين، فهم في حال
المستنكرين لما عمَّهم به تعالى من بالغ عنايته، وحكمة عطائه بغية شفاء قلوبهم
السقيمة من حب الدنيا الدنية، ثم تسليط العلاجات الشديدة علَّهم يشيحون عنها
ويلتفتون لما خُلقوا من أجله، ولما أعدَّه تعالى لهم من الخيرات، فإن ثابوا عن
غيِّهم وآبوا بقلوبهم لربهم، منحهم السعادة في دنياهم، والعطاءات السرمدية والجنات
الأبدية.
بذلك يستطيع من أدرك معاني كلمة عمَّ فعقلها
فآمن بالله من ثناياها على الواقع العملي لها، أن يشهد معاني سورة النبأ، وكذلك
كافة جزء عمَّ، ومن استيقن بفضل الله مما عمَّنا به من نعم وإحسان، يستطيع إدراك
معاني جميع آيات القرآن وسوَره، {..قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى
وَشِفَاء..}[37] ، هذا قول الله الذي عمَّنا بفضله وكرمه، وعظيم
رعاياته وإمداداته.
المؤمنون فكروا و وتعمقوا حتى عقلوا هذه الكلمة
(عمَّ)، فآمنوا بما عمَّهم تعالى به من عميم فضله وإحسانه ورحمته وعطاءاته،
أي آمنوا بلا إله إلا الله، من ثنايا ما لفتهم إليه تعالى من آيات كونية ذكرها في
جزء عمَّ. لقد قدروا النِّعم والتي من خلالها قدروا المنعم جل وعلا، ومن لا يقدِّر
النعم الإلهية فهو ليس بمؤمن.
- هذا وقد جاء تعالى بلطيف الإشارة وعظيم
الدلالة، تعريفاً بعظمته تعالى، وجليل شأنه، فلعلَّنا إن عرفنا عظمته وأصغينا
لقوله، عندئذ تشهد نفوسنا الحقائق وتؤمن به، لتعلم أيها الإنسان أن الذي أكرمك هذا
الإكرام، حريص عليك ومحب لك، ولا يريد في ما بيَّنه لك إلا تحذيرك وتنبيهك. فلعلك
تنتبه لكلامه وتصغي إلى إرشاده، وتسعى في ما يجعلك أهلاً لما أعدَّه تعالى لك من
النعيم المقيم. قال سبحانه يلفت الأنظار ويحرك الأفكار:
الخُنَّس:
{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ
الْكُنَّسِ}[38]: ولا نافية للقسم، والخنس تعني النجوم الجاريات في مداراتها
المخصصة لها كانسة لا تخرج عن التحرك في مداراتها، سابحة في أفلاكها ومجاريها، فلا
تتجاوزها ولا تتعداها، إذا طلع النور أضاءت شمس النهار تخنس، فلا نعود نرى أجرامها
ونورها، وها قد بيَّن تعالى لنا عن عظمة النجوم التي لم يقسم جلَّ جلاله بها: {فَلَا
أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[39]،
فهذه النجوم ومنها الضخم جداً التي لا يكاد يحصيها العدُّ، ملازمة لأفلاكها دون أن
يصطدم نجم بنجم، أو يخرج عن مداره ومجراه، فمن المسيطر عليها وعلى كل نجم فيها،
هذه السيطرة الرهيبة الاستمرارية، ما أعظمه!.
إذا أنت نظرت أيها الإنسان إليها نظرات ملؤها
التفكير والإمعان، هالك أمرها وقدَّرت عظمتها!! ولكن إذا أنت رجعت إلى كلمة (لا
أقسم) استطعت أن تنتقل منها إلى عظمة خالقها، تلك العظمة التي لا تتناهى،
وتخشع نفسك لجلاله تعالى، فما خلْق النجوم كلها وإمدادها وتسييرها وتدبير شؤونها
إلا بأمر واحد منه تعالى وبكلمة: (كن). وذلك لفظ يقرب لك الحقيقة الإلهية
التي هي أعظم من أن يدركها إدراك، أو يصل إلى كنهها عقل أي مخلوق من المخلوقات،
إلا بمقدار.
فبالنسبة لعظمة خالقها التي لا تتناهى، فهذه
الأجرام الهائلة الكبرى هي ذرة من عظمة خالقها ممدها، فهي وعظَمتها تجاه عظمته
تعالى لا تذكر، فكيف يستسيغون القسم بالتين وما دونه؟!.
الانشقاق:
بسورة الانشقاق قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ}.
فهذا الأسلوب الخطابي الرقيق بقوله تعالى (لَاۤ
أُقْسِمُ): بيان لشأن المذكور بعدها، أي أنه عظيم جداً، وأنك إذا فكرت فيه
استعظمته واستكبرته، لكنه عليه تعالى يسير هيـِّن:
{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}: أي لا
أقسم بما في الشفق من الخير والإحسان والعطف والحنان، {وَاللَّيْلِ وَمَا
وَسَقَ} وهذه الواو واو العطف في أول هذه الآية تبين أيضاً شأن الليل فإنها
تقول: ولا أقسم بالليل فهو عليكم عظيم جداً، بخيراته التي يسببها لكم، وذو شأن
جدير بالإكبار والإعجاب، من حيث زيادته ونقصانه التي بسببها تتكوَّن الفصول
الأربعة وخيراتها العميمة وأمطارها والمزروعات، ودوران دواليب الحياة كلها، لكن
الليل، هذه الآية العظمى عليه تعالى من أيسر الأمور وأهونها. إذن "فلا"
هنا نافية ولا أصل لما يقولون أنها زائدة أبداً.
فما أعظمك يا رب، وما أكبر عطفك علينا بتسخيرها
لخدمتنا لنستدل عليك يا خالق العظمة و الجلال، بعدها تمنحنا من فيوضات فضلك ما لا خطر
على قلب بشر، خيرات دوماً تفيض ولا تقارن بها خيرات الليل المادّية الكبرى لأن
خيراتك يا رب مترعة بودادك ومزيد رضاك.
البلد:
أما في سورة البلد فيبدأ تعالى بذكر طائفة من
الآيات الدالة على عظمة الكون ودقة صنعه، لأن تعظيم الكون والتطلع إلى إحكام صنعه،
يسوقنا إلى تعظيم خالق الكون وموجده، وهذا التعظيم للخالق جل جلاله، يحملنا إلى
الإصغاء لكلامه، والإذعان لهداه وعالي دلالته، ولذلك قال تعالى:
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}، وقوله
تعالى يتناسب مع شمول كمال الله، لما ينطوي عليه الكون من أشياء، وما ضمَّه بين
أرضه وسمائه من مخلوقات.
وإذا نحن نظرنا هذه النظرة الواسعة رأينا الكون
كلَّه بلداً واحداً ومقاماً لهذه المخلوقات، فلكل طائفة مقر، ولكل فئة منها فيه
مسكن. فسطح الأرض اليابسة: مقام هذا الإنسان، وبطن الأرض: مقام النمل والحشرات،
والبحار: مقام الأسماك، وهذا الفضاء الواسع الذي لا يتناهى، موطن النجوم السابحة،
وهكذا فالكون كله بلد واحد، فإن نظرنا هذه النظرة الواسعة، عظمنا خالقنا وأكبرناه،
وعرفنا جلاله تعالى.
وقد أراد سبحانه أن يعرفنا بعظمته أكثر فقال: {لَا
أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} أي: إذا كنت قد شهدت ما شهدت أيها الإنسان من
عظمة الكون، فاعلم أن خالقك أعظم، وأنه لا حد ولا انتهاء لعظمته، فهو خالقه
وممدُّه ومسيِّره فالله يقول: هذا الكون العظيم الذي تحار فيه العقول، أنا لا أقسم
به، تجاه عظمتي، التي سأشهدك عليها برجوعك إليّ وما أعددته لك من جنات وخيرات،
يتضاءل تجاهها هذا الكون الزائل ومن فيه.
إذن "لا" هنا أيضاً نافية للقَسم.
فلا أقسم بما تبصرون:
وفي قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا
تُبْصِرُونَ}. كل ما ترونه بأعينكم من سماوات وأرض وجبال وبحار وشمس وقمر، ولا
أصغر من ذلك ولا أكبر.
{وَمَا لَا تُبْصِرُونَ}: وكل ما لا
ترونه من عوالم الملائكة والجن، وما لا تصل مداه أبصاركم ولا بصائركم تجاه عظمتي،
وما أعددته لكم بحناني من فضل وإحسان، لا يستحق أن أقسم به، ولكن ما حوى كتابي
وقولي من خيرات لكم، هي الخير الدائم العظيم: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ}[40]، لا أقسم بكل ذلك، فكل ذلك كان عليه تعالى هين
ويسير، إذ بكلمةٍ منه تعالى " كن " كان ما هو كائن، فالقسم لا يكون
إلاَّ بعظيم. ولا عظيم سواه، فهو صانع كل عظمة وموجدها و مرفدها وممدها على
الدوام، ولا إله إلا هو.
وهذه المخلوقات التي يقولون أنه تعالى يقسم بها،
هي مخلوقات غير مكلفة عجزت عن حمل الأمانة التي حملها الرسول العظيم وفاز بها،
وتبعه الأنبياء والمتقون من المؤمنين، بل إن هذه المخلوقات من تين وزيتون وقمر
ونجم و شمس.. هي مسخَّرة للإنسان، فأنى لله العظيم أن يقسم بها؟ لا، لا.. هذا لا
يكون: بمن أقسم تعالى إذن؟.
فالله لم يقسم بآياته أبداً بما تبصر الناس
قاطبة وبما لا تبصر، إلاَّ أنه تعالى أقسم فقط بسيد الخلق الصادق الأمين العطوف
الرحيم ذو الخُلق العظيم، السابق الأسبق، سيد السادة النبيين والمرسلين
والعالَمين، أقسم بحياة الرسول العالية الغالية صلى الله عليه وسلم إذ قال تعالى:
لعمركَ:
{لَعَمْرُكَ..}: يا محمد وحياتك العالية:
{..لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[41].
لعمرك الذي لم تضيع منه لحظة إلا كسبتها في
الخيرات، منذ أن خرجت إلى الدنيا، نعم لم يضيع صلى الله عليه وسلم منها لحظة، بل
اكتسب الحياة كلها بأعلى معالي الأمور، فهدى الأمم إلى الله فالسعادة والجنات.
فكم له من شأن ومكانة عند الله، وكم له من عمل
عال، وخلق كريم، فلننظر إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:
حيث أن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان
للبشرية كلها وللإنسانية قاطبة، خير عصر وأجلّ زمان، وبما أن الكمال الإنساني الذي
ظهر من ذلك الإنسان العظيم طوال حياته لم يستطع أن يماثله فيه أحد من المخلوقات،
منذ أن أوجد الله تعالى البشرية على سطح الكرة الأرضية إلى نهاية الدوران، لذا
أراد تعالى أن يعرِّف رسوله الكريم بذلك المقام الرفيع الذي ما ناله أحد مثله في
العالمين، وأن يعرفنا نحن بني الإنسان، أن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف
وأجلّ عمر فقال تعالى:
(لَعَمْرُكَ) أي: وعمرك السامي المليء
بجلائل الأعمال والبطولات المشحونة بالجهاد الإنساني المقدس والتضحيات، المتميز على
سائر القرون بالفضيلة التي غرست في القلوب أصولها، المشرق بالإيمان الذي هديت
الناس إليه، فكانوا به سادة الأمم وقادتها، الزاخر بالمعرفة بالله التي لا يطمئن
القلب إلاَّ بها، ولا تسعد البشرية إلاَّ إذا حصلت عليها، وهكذا عدِّد ما شئت من
أوصاف عالية لهذا العمر الذي كان على الدهر كله منارة يضيء للأجيال طريقها إلى
السعادة، ونبراساً يهدي البشرية إلى ما تصبو إليه من كمال وفضيلة وحياة طيبة. تجد
قلمك عاجزاً، ولسانك قاصراً، عن بيان ما لهذا العمر من سمو وما انطوى عليه من
أعمال جليلة، وما أنت بمستطيع، وما أحد في العالمين بمستطيع أن يحيط وصفاً بذلك
العمر العالي الرفيع.
لقد جاء صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدنيا فوجد
قلوباً متنافرة.. وأمماً متباغضة، وإنسانية معذبة غارقة في الجهالات، منغمسة في
الفساد، تائهة في الضلالات، فما زال جاهداً حتى جعل هذا الإنسان يزهد في الكدرة،
لقاء ما وصل إليه من جوهرة، بها سعادة الدنيا والآخرة. ما زال جاهداً حتى جعل من
أولئك الأفراد المتنازعين المتفرقين، أمة قوية تسوس العالم، وتأخذ بيد الإنسانية
من الضلال إلى الهدى، فإذا بالأجيال، تسير وراء الأجيال خارجة من الظلمات إلى
النور.
ونحن بما حصلنا عليه في هذا العصر، قبس من نور
جهاد عمره الشريف، وما أراني مهما ذكرت ووضحت بمبين ذرة من بحر، من ميزات هذا
العمر. وكفاه شرفاً أن الله تعالى خصه بالذكر في محكم كتابه الكريم تجدد ذكراه
كلما تلاه تال، وتشرفت به مسامع إنسان، إذ قال تعالى {لَعَمْرُكَ..}.
فمن عمره مثل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فيه خرَّج الأبطال فكان أشرف عمر على مر الدهور والأجيال، فإذا ذكرت رسول الله صلى
لله عليه وسلم وحياته الشريفة، فقد ذكرت البطولة والشجاعة والتضحية الرائعة، ذكرت
الرأفة والحنان والرحمة، تمثل لك النبل والوفاء والمروءة والإيثار. ذكرت العلم
والحكمة، وبدا لك العطف واللطف، والعدل والإحسان، لا بل رأيت الفضائل كلها ماثلة
بأبهر مظاهرها، وأروع وأجلى مشاهدها في ذلك الزمان المشرق به صلى الله عليه وسلم،
على جميع الأزمان.
ليكن لك من هذا الإنسان العظيم المثل الأعلى في
اغتنام هذه الفرصة من الحياة، وعزِّر ووقر رسول الله صلى الله عليه وسلم وليكن في
نفسك له ذلك التعظيم والتقدير. هنالك تدخل بمعيته على الله، فتسمو نفسك كما تسامت
نفوس الصحابة الكرام من قبل، الذين وقَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفانوا
في محبته. فما كان أحدهم ينصرف عن صاحبه حتى يتلو عليه عظمة "لعمرك"
يا محمد، فلا يفترقان إلا بعد تعظيم وتقدير لذلك
الرسول الكريم، وينقلبان ونفس كل منهما تمتلأ بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
سابحة بصحبة تلك النفس الزكية الطاهرة في بحار الحب والمعرفة بالله.
وهكذا فعظِّم من خصه الله بالقسم دون العالمين
لما له من عظيم الشأن وعالي المكانة، شفيعك ورسولك الطاهر الأمين.
وأكرم به وأنعم وصلِّ وسلم له تسليماً يأتك
الخير العظيم بأجمعه، وأنت قلبيّاً بمعيَّته، وتعود إلى ربك عوداً جميلاً مترعاً
بشفاعته صلى الله عليه وسلم بتلك الصحبة النفسية النوارنية الشريفة فتنير لك نفسك
بعد الموت فلا ظلام، وتغدو إنساناً إنسانياً تأنس دواماً معه بربِّه، وتنال أسمى
الصفات والمكرمات، ويأنس بك كل مخلوق، إذ غدت نفسك لا تفيض على من حولك وعلى الناس
إلا بالخير والذي تتشربه من الله لنفسك وللناس. وأكرم به وأحبب تنل ما ناله
الصديقون والشهداء والصالحون، وحسن أولئك رفيقاً.
[29] سورة البقرة: الآية
(249).
[30] سورة الواقعة: الآية
(75-76).
[31] سورة الحاقة: الآية
(38-39).
[32] سورة الإنسان: الآية
(24).
[33] سورة القلم: الآية
(10-12).
[34] سورة الإسراء: الآية
(20).
[35] سورة إبراهيم: الآية (34).
[36] سورة الطارق: الآية (4).
[37] سورة فصلت: الآية (44).
[38] سورة التكوير: الآية
(15-16).
[39] سورة الواقعة: الآية
(75-76).
[40] سورة الحاقة: الآية
(38-40).
[41] سورة الحجر: الآية (72).