هـل السـعـادة حقاً حـلـم لا يـتحــقـق؟!..

بلغت الحضارة في عصرنا العتيد أوج التقدم والرقي العلمي، بما أحدثته الثورة التقنية من اختراعات وابتكارات، حققت لأربابها ما يطمحون إليه من أغراض ووسائل، تؤمن لهم معيشة أكثر رفاهية مما سبق، وذلك باختلاق النظم و القوانين، بغية تسخير موارد الطبيعة، لتجود لهم أكثر مما كانت عليه، وتبديل أنماط حياتهم نحو الأفضل والأرقى، فكان اختراع السيارات والطائرات واكتشاف الكهرباء والإلكترونيات، وبناء القصور الشامخات، وتشييد المصانع الضخمة بأكبر قدر من التكنولوجيا.

كل هذا سعياً وراء حياة يَهنَؤون فيها بالعيش الرغيد والسعادة المأمولة.

إلا أنه رغم جميع السنن والخطط التي سلكوها، والوسائل التي أحدثوها، بقيت حلقة مفقودة في سلسلة حياتهم، أورث ضياعها قلقاً نفسياً حاداً، عانت منه البشرية قاطبة، فرغم العلم الحديث المتطور، الذي حلَّق فوق بلادهم بقوانينه الجبارة وكشوفاته وتقنياته، كانت السعادة غائبة عنهم، والسرور القلبي قد انعدم لديهم، بسبب الحجاب المادي الكثيف الذي ألقى ظلاله القاتمة على الأنفس، فسدَّ عنها النور والسرور، والحياة الإلهية القلبية والسعادة.

عندها أخذ البعض يتساءل عن سبيل لبلوغ السعادة المرجوة، وهل يمكن السيطرة بالقوانين المادية على جوهر السعادة للوصول بالأصول لتحصيلها علمياً، والسيطرة عليها ونوالها؟.

هل من الممكن إخضاع السعادة لتلك القوانين العلمية الجبارة، فتأتيهم صاغرة خادمة طائعة بين أيديهم؟! فيتمتعون بالسعادة المأمولة، وتغدو الأرض جنَّة!.

   فريق علمي (يبحث في السيطرة على السعادة) بالقوانين المادية وذلك في النصف الأول من القرن العشرين:

لأجل هذا الهدف، وحبّاً للاكتشاف والنوال للسعادة وبحثاً عنها، قامت هيئة باحثة دارسة ضمَّت فريقاً بريطانياً حوى كبار العباقرة والجهابذة والعلماء والفلاسفة وأطباء النفس المتخصصين ليدرسوا هذه القضية المهمة (السعادة)، ويطلقوا سهماً علَّهم يصيبوا به هدفهم الذي كل ما سواه إنما اخترع لأجل تحصيله.

أخذ الفريق يقلِّب طبقات وشرائح المجتمعات البشرية، رفيعها ووضيعها، فقيرها وغنيها، يتفحصها بدقة واهتمام (يسبر مدى السعادة المكنونة في طياتها، وعند من تنحصر مادة السعادة، ومن هم مالكوها، وكيف السبيل للوصول إليها؟).

كل ذلك ليقرروا منهجاً يحتذي المجتمع بقوانينه، ويكون لهم مرشداً ودليلاً لبلوغ مسرات مطلقة بديمومة مدى الحياة، دون نغص أو كدر، فيمتطي الجميع سفينة السعداء، ويخوضوا بحار الصفاء والهناء، ليسعدوا بحياة ملؤها الحبور والسرور، فنتقلب بأحضان النعيم من جميل لأجمل، ونعرج من حسن لأحسن، ومن طيب لأطيب، ببدع لذيذة ممتعة جذابة خلابة، تأخذ بمجامع القلوب وتسلب الألباب، وتسحر الأفئدة، فتمتصُّها بكليتها بغبطة وهناء، وأفانين متزايدة متعاظمة، وذلك ضمن قوانين وقواعد صارمة في الدقة، تُتَّبع لنيل سبل السعادة.

كثيرون هم أولئك الذين يسعون نحو الحياة الأفضل، ليكونوا فيها أسعد حالاً، وأهدأ بالاً، وأكثر استقراراً وطمأنينة، وبسطاً وهناء، إذ أن السعي نحو الكمال بتحقيق السعادة ضمن قانون شامل تخضع له البشرية قاطبة، وتتميز به عن سائر المخلوقات، هو الهدف المنشود.

   في سماء الأغنياء المترفين:

وحيث أن الأكثرية الساحقة من الناس يحسبون أن السعادة الكاملة والحياة الطيبة يحققها المرء إذا أصبح ذا مال وفير، وغنى كبير، وقصر رائع مهيب، وممتلكات تنحني لها الرؤوس إكباراً، لذلك تراهم يتبارون ويتنافسون في جمع أكبر ما يمكن من الأموال والكنوز، ويبذلون قصارى الجهد في سبيل الحصول عليها، من دراسات ومشاريع وتجارات، فيركبون المخاطر والمشاق، ويضربون في مشارق الأرض ومغاربها، برّاً وجوّاً وبحراً لنيل شهادات، بغية قطف ثمار السعادة بنتاجها المعنوي والمادي، أو عقد صفقات تجارية رابحة ضخمة، أو الحصول على مشاريع مالية كبرى، فيتحملون في سبيل ذلك ما يتحملون، ظناً منهم بأنهم يحصلون بالمال على ما يشاؤون، كما يؤمِّنون به ما يرغبون ويحبون (فلا مانع ولا حاجز يحول بينهم وبين العيش الرغيد بأعظم ما يمكن من الرفاهية والرقي)، فالدنيا فتحت لهم أبوابها وقالت هَيت لكم، ولكن هيهات..

• بدأ الفريق العلمي يبحث ويمحِّص ويحقق في تلك الشريحة من المجتمع، وهي الطبقة الراقية من الأغنياء والأثرياء، علَّه يصل إلى ما يصبو إليه، ويعثر على ضالته من السعادة المأمولة، ضمن أصول القوانين المادية، ولكن سرعان ما رجع الفريق بخيبة الأمل، وضياع الجهد والمسعى، على غير طائل ولا نتيجة، هذا عندما استقبله قلق هذه الفئة واضطرابها، إذ أخذ أفرادها يرنون بأبصارهم إلى الماضي، حين كانوا لا يملكون من الدنيا شيئاً يذكر، فلا همّ ولا غمّ ولا نغص، بل راحة بال وصفاء وبسط.

ذلك لأنهم عندما حازوا القصور الفخمة، والمعامل والمصانع الضخمة، بدأ التنافس على أشده، والتناحر والصراعات المحمومة المنتهية بالنزاعات والمحاكمات، والأحقاد للأضداد، والشغل الشاغل في التخطيط والكيد والمؤامرات، بغية قهر المنافسين، ولا تخلو أمسياتهم من حسابات ودراسات، فضاعت حقوق زوجاتهم وبنيهم، وفقدوا السعادة الأسروية، وانشغلوا بالجمع والمنع، عن منح حقوق ذويهم من الأهل والأقرباء، ونسوا حظَّ المساكين والفقراء، وعندما يبدو لهم نصر الأعداء وفشل تجارتهم، تغدو لياليهم مليئة بالرعب والهلع، وقلما يطرق النوم أجفانهم، فلا ذوق لراحة البال، ولا معنى للاطمئنان في أمسيات حياتهم، فشبح الاغتيال يعكِّر صفوهم، والفشل والخسارة المحتملة بصراعاتهم تقض مضاجعهم، تهدد شموخ بنيانهم بالانهيار، وحيث أنهم أيضاً يشكِّلون نقطة هدف عند المجرمين والسارقين، فبات القلق خليلهم، وإن استطاعوا حماية أنفسهم، كانت احتمالات الخسارة تلوح دائماً في مخيلتهم، فلا أمان على تجارتهم من البوار، فهم في شغل دائم بحسابات الربح والخسارة.

قلوبهم وجلة مضطربة على هيكل المجد والغنى الذي شيدوه، خشية السقوط والاضمحلال كي لا يفقدوه.

   فأين السعادة؟!... لا سعادة.

هكذا حلَّت في قلوبهم الهموم والغموم، وفقدت السعادة مع وفرة المال والمادة. وحبّاً للاكتشاف وزيادةً في حب الاستطلاع، اندفع الفريق الباحث عن السعادة إلى الحوار والسؤال، فاستجوب بعض أفراد تلك الفئة، لعلَّ السعادة تكون مختبئة في لغز لا يعرفه إلاَّ أصحاب القصور والغنى.

ولكن كان جوابهم الصريح: إننا منذ حصلنا على الغنى، حلَّ بساحتنا الانشغال والهم والغم، وحُرِمنا البسط والسرور والمسرات. كما نسينا إعطاء ذوي الحقوق حقوقهم، فلا متَّسع من الوقت ونحن في غمرة هذه الصراعات، ولا حقوق للزوجة ولا للبنين، ولا للآباء والأصدقاء والأقرباء، حتى حرمنا لذيذ المنام، وبلينا بالسهر الدائب، وكل هذا خشية على المال من الخسران والزوال.

لقد سَلبنا المال وجمْعه لذة الحياة، ونحن في حميم الصراعات والطموحات المادية، فنسينا حقوق ربنا لكثرة مشاغلنا، فأصبحت حياتنا القلبية في حميم وظلمات، عداك عن صراعنا ضد العمال الذين يطمحون لزوالنا، ويتبعون المذاهب الهدامة للقضاء علينا "صراعاً محتوماً".

كما أننا نذل أنفسنا لأرباب السلطة، لنصرتنا ونحن في أوج الصراع مع منافسينا من أصحاب المصانع والأموال، حتى فقدنا السعادة، وفقدنا راحة القلب وخلو البال والطمأنينة والأمن، وصرنا نرنوا بأبصارنا وقلوبنا إلى تلك الأيام الخوالي، حين كنا لا نملك هذه القناطير المقنطرة من الأموال، فلا همٌّ يشاغلنا، ولا غمٌّ يغمرنا، أما الآن فحياتنا كلها جمع ومنع، حتى صرنا من أجل جمع الدنيا، وقد فقدنا كل معنى لراحة القلب، وخلوّ البال والطمأنينة والأمن والسلام، حتى غدونا وحقيقة صرنا نتمنى حياة البسطاء، ونحن في أمن وأمان، ننام ملء جفوننا، ونستيقظ بحبورنا، ولو يعلم الناس شقاء نفوسنا لما ظنوا أن السعادة بالمال.

وهذا ملك الملوك يدلي بشهادته ويعترف أمام جميع الناس بالحقيقة التي لا مفرَّ منها، إنه ملك الملوك "شاهٍ شاه": ملك إيران السابق، عندما قامت الثورة ضده وطرد من بلاده إلى أمريكا، حيث نفته أمريكا هذه "لأهداف سياسية لا علاقة لنا بمرماها" إلى مصر، حيث وقع الزلزال النفسي بساحته واشتدت "بشاهٍ شاه" الأهوال، فوقف مقراً معترفاً أمام الرائي "التلفاز" ينطق بالحق والحقيقة التي يعيشها الملوك والأغنياء قائلاً:

(لقد كانوا يغبطونني بل ويحسدونني على النعم التي حزتها، والممالك التي نلتها، إذ غدت لدي مدينة حقيقية كبرى للملاهي على شاطئ البحر، ألهو كيف أشاء، وأتمتع بما أريد، كما أقمت وليمة ومأدبة كبرى لم يطرق مثيلها مسامع إنسان لملوك ورؤساء دول العالم قاطبة، بموائد وأواني من الذهب الأصفر الرنان، ومنحت كلاً منهم كل إناء ذهبي أكل منه ولو لقمة واحدة، وها أنا الآن بين أيديكم طريد فريد وحيد، لا ملْك لي ولا مال، وأقسم لكم بالله العظيم أنني في الحقيقة لم أذق طعم السعادة يوماً واحداً من أيام حياتي، إذ لم يلمس قلبي إلاَّ السخط وانعدام الراحة والشقاء). فلكم بملك الملوك هذا عبرة يا أولي الأبصار، وصدق من قال: (خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدره هماً).

ومن هنا نرى أن السعادة لا تكتسب من المحيط، إن لم تنبعث من قرارة النفس وتشع فيها، وتصبغها بحلل الجمال والهناء والصفاء.

أما وسائل البذخ والترف فكانت عند هؤلاء المترفين، بمثابة جرعات مخـدّّر لمريض ألمَّت به علَّة مزمنة، وما أن يزول مفعول المخدِّر، حتى تسرع لوعة الملل والضجر والآلام القاسية، وتأخذ مكاناً لتستقر في جسد ذلك المسكين وقلبه.

ولم يكن أمر تحقيق شهواتهم كاملة بوسائل الترف والتسلية التي اخترعوها واستجلبوها أحسن حالاً، فما أن يستوفوها حتى ترى جباههم انحنت للضجر والملل والسآمة، دون أية مقاومة، لتكتظ نفوسهم بأنات وزفرات لا يُعرف مأتاها، ولا سبيل للخلاص منها، فرغم وسائل التسلية المتوفرة لديهم، والتي هي بمثابة جرعات مسكنة كانت غير مجدية ولا نفع لها، بعد استهلاكها والملل منها.

فالآلام النفسية المضنية التي يعانون منها، والتذمر والضجر يعتري حياتهم، والمشاكل والأوجاع النفسية تنصب عليهم من كل حدب وصوب، لتملأ ساحات نفوسهم، ساعتئذ يكون الموت والانتحار هو الحل الوحيد برأي ذلك الإنسان التعيس الذي أضحى فريسة آلامه، على أمل الخلاص، ظناً منه أنه يستطيع بهذا العمل تحويل الحال وتغيير الواقع القلبي الجهنمي الذي يعيشه.

فتعجب، وأعجب، ويعجب الناس والأدباء في كل مكان، عن انتحار المليونير العالمي ملك الألماس في أمريكا، وهو من أغنى الأغنياء في العالم، لماذا ودون سبب دخل غرفته وأحكم إغلاقها وأطلق على رأسه طلقة مسدس لتودي بحياته، فمال قارون بين يديه، وكافة شهواته متحققة لديه، فما يشاء يحصل عليه، ولا ينقصه شيء من متع الدنيا وبهجتها، فلماذا انتحر؟!.

لغز حارت به عقول الغربيين الباحثين وأفهامهم، إذ كانوا يظنون بأن المال (مادة الشهوات) هو كل شيء، هو السعادة بعينها، كما يظن كافة الجهلة بواقع الحياة من الناس، أن السعادة تتحقق بالمال، وأن الأغنياء هم السعداء.

فلماذا دفع بالمليونير مع كل هذا المال للانتحار؟! إذن لقد أخطأ من ظن يوماً أن السعادة بالمال الوفير.

إذن: المال لم يُغن عن صاحبه من اليأس والقنوط والضجر النفسي شيئاً، ولم يُحقق له السعادة التي كان يتطلع إليها، فقد حقق بالمال كافة لذائذه ومُتعه، ولم ينل السعادة بل فضَّل الانتحار.

إن نسبة الانتحار في الدول الراقية الغنيَّة، بلغ حدّاً مخيفاً يهدد المجتمع بالانهيار الكامل، ففي سويسرا أصبح مصرَّحاً بالانتحار رسمياً، حيث وافقت الحكومة على إصدار تراخيص وسجلات تجارية لعدد من الشركات التي أنشئت خصيصاً لمساعدة الراغبين في الانتحار، للحصول على طريقة للموت غير مؤلمة، ونتجت لذلك سياحة جديدة في سويسرا اسمها سياحة الانتحار، وإيجاد مقابر خاصة للمنتحرين الأجانب.

يدفع المنتحر/25/ فرنكاً سويسرياً لتساعده الشركة على الانتحار غير المؤلم، وتبرر الشركة مزاعمها من خلال الإحصائيات السويسرية التي تشير إلى أن أكثر من /63/ ألف سويسري انتحروا دون مساعدة أحد عام "1995":

منهم /338/ ماتوا بالسمّ.

و/16/ بالمخدرات.

و/16/ بآلات حادة.

/382/ شنقاً.

/99/ أغرقوا أنفسهم.

و/392/ بالرصاص.

و/128/ بإلقاء أنفسهم من طوابق علوية.

و/4/ بإلقاء أنفسهم أمام سيارة مسرعة.

والباقي بطرق أخرى.

كما أن أول استطلاع عن الانتحار بالصين، أظهر أن معدل حالات الانتحار/287/ ألف منتحر كل عام، وذكرت وكالة الأنباء الصينية أن حالات الانتحار تشكل/3.6 %/ من مجموع الوفيات في الصين.

والأمر تقريباً يماثله في بريطانيا، حيث يقدم حوالي /14/ شخصاً من كل /100/ ألف على الانتحار.

وفي فرنسا /40/ ألف مراهق فرنسي يحاول الانتحار سنوياً، /800/ نفر من هؤلاء لقوا حتفهم لحظة الانتحار.

كما أثبتت في أمريكا /18526/ حالة انتحار في العام الواحد.

في حين لا تجد مثل هذه النسبة ولا القليل منها في دولنا، رغم عدم توفر متطلبات النفس التي بحوزة الدول الراقية بلاد المنتحرين، ففي إمارة دبي التي تفوق غيرها من الدول العربية بنسبة الانتحار، تبين من خلال مقالة لخبير بالطب الشرعي بدبي، حيث أكد أن ظاهرة الانتحار بدبي تشكل أقل نسبة من البلدان الأوربية وكندا وأمريكا.

كما أن الكوكائين و الأفيون و المشروبات الكحولية والمخدرات، منتشرة بين أفراد الدول الراقية انتشاراً ملحوظاً، يتناولونها ليغيبوا بها عمَّا يخالط نفوسهم من أهوال تمزقهم، وتبعث فيهم وهج نار قلبية حامية، حتى أنها تقذفهم نحو الانتحار والموت، راجين فرج الكرب، آملين الخلاص مما فيهم من نصب وتعب، وضجر وملل، كالمستجير من الرمضاء بالنار، فهم يجهلون تماماً وبعلومهم الماديَّة ماذا بعد الموت من أهـوال.

ولنا في قصة علاَّمتنا "محمد أمين شيخو" خير عون وسند لاستجلاء وجه الحقيقة بوضوح، تمَّ هذا عندما اجتمع بعميد عائلةٍ شهيرةٍ بالغنى والسلطان في مدينتنا "دمشق الحبيبة"، فوجده كئيباً مترعاً بالهمِّ والغمِّ والملل، فسأله علامتنا:

(خيراً يا بيك، ما هو المصاب الذي أصابك فحلَّت بساحتك الهموم والأكدار، علماً بأن لديك قصراً شامخاً في مصيف بلودان الشهيرة، وقصراً في لبنان، البلاد الفاتنة الجمال، كما أن لك فنادق ومشاريع في سويسرا وأوربا وأمريكا، فلماذا لا تتنزه بها وتجلو عن نفسك الصدأ، وتذهب عنها الأكدار؟!..

فأجابه: يا بيك، بلودان أعرفها وقد مللتها، ولبنان وسويسرا وأمريكا قد شبعت منها و مللتها، ولا أستطيع النجاة من الملل والضجر الذي يكاد يقتلني، لقد شاهدت كل شيء، ومللت من كل شيء.

وبعد أربعة أيام من هذا اللقاء و الحديث، قرأ العلاَّمة الشهير " محمد أمين شيخو " نعوة هذا المليونير على الجدران).

لقد عاف الحياة وما فيها، وزهد بالمال وكرهه، فلم يحصل على السعادة في شيء، رغم حصوله على كل شيء، بل أورثه الضنك والشقاء، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم..»[89].

وهكذا الدنيا، وطالبوها يسعون ويركضون، حتى إذا تم لديهم بالمال كل شيء ولم يصلوا إلى السعادة، فضَّلوا الموت أو الانتحار. ناهيك عن مرضى الكآبة الذين لا يعرفون للشفاء منها سبيلاً، ولا طريق بالأدوية الطبية إلا التخفيف المؤقت، ولا جدوى ولا شفاء.

   لِمَ ذلك؟.

وفي الحقيقة نقول إن طاقة الجسم البشري محدودة أمام طموحات النفس ومشتهياتها الكبرى، إذ تتمنى النفس أن تحوز كل المشتهيات والثروات، وأن تحصل على كل الملذات، فتصطدم مع إمكانات الجسم المحدودة الصغيرة، فتركيب طاقة غير محدودة، على طاقة محدودة، هو مبعث الألم ومبعث الشقاء.

ويظهر هذا جلياً عند سن العجز، حيث يتهافت الجسم ويتدهور مع تقدم السن، ويكون بعد الخمسين والستين قد اسْتُهْلِك، ولا يتمكن من تحقيق طموحات النفس اللامحدودة بسبب الأمراض والعجز والإنهاك، ناهيك عن ضعف البصر والسمع والسقوط والتراجع الجسمي المستمر، بما يورث القنوط للنفس، والإصابة باليأس وربما الانتحار.

وهذا شاعرنا العربي يقول:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانيـــن حْولاً لا أبا لَك يســــــأم

هذا وكم من الأغنياء المرضى حصلوا على الملايين من الدنانير، يتمنون من صميمهم أن لو لم يملكوا شيئاً من المال، ولهم من الصحة والنشاط والحيوية ما للآخرين، فليس للسعادة من سبيل عند رجل أضنته علته ومزقته آلامه الجسمية، والأمراض والأوجاع أخذت منه كل مأخذ، فأرهقته وسلبته الهناء، على كلٍّ ليست اللذة الحسية عن طريق الجسم سعادة حقيقية، إنما هي لذائذ منقضية عابرة، وقضاء شهوات ورغائب، يعقبها الشقاء. شتان بين هذه اللذات المنقضية، وبين السعادة الدائمية، والفرق جدُّ واسع وكبير.

ذلك أن السعادة تستقر بالنفس وتخالطها وتمازجها، وبما أن النفس هي الذات الشاعرة وطاقاتها غير محدودة، بينما الطاقات الجسمية محدودة، لذا لا يستطيع الجسم تلبية كافة رغباتها وتطلعاتها.

فتركيب طاقة غير محدودة على طاقة محدودة كما قدَّمنا، يجعل الأخيرة لا تستطيع تلبية رغائب الأولى، إذ النفس كالفرس الجموح، كلما قضت من شهوة وطراً، طلبت الأخرى من غير ملل أو كلل، لأن ماهية تكوينها غير مادية، وباستطاعتها أن تبتلع لذة الوجود من غير أن تشبع، أو من غير أن ترتوي طاقاتها اللانهائية.

فالنفس البشرية لم تُخلق لتُملأ أوضاراً، إنما أعدت لتُملأ كمالاً وجمالاً مطلقيْن، وسعادة أبدية متسامية، ولترتوي من معينٍ لا ينضب، ولترتشف من جمال خالقها وجلاله وعلمه ورحمته الذي لا يتناهى، وبه بالصلاة الحقيقية اليقينيّة تقر عيناً وترتوي ريّاً متواصلاً بلا حدٍّ ولا عدٍّ، فالسعادة بالله ومن الله فقط، فهو تعالى خالق الكون والجمال والسعادة.

   الموت بالمرصاد:

على حين نظر المترفون إلى الرفاه المادي نظرة المنقذ لهم من الشقاء والآلام، فبدأ التسابق وبدأ السعي في اختلاق تفننات جديدة في الحياة غير مألوفة، وبذلك أخذت الحياة نحو التعقيد بدل التبسيط والشقاء بدل السعادة. على كلٍّ مهما حقق الإنسان، فإنه يبقى أمام المصير المحتوم الذي لا بدَّ منه ولا فرار، ألا وهو الموت "هاذم اللذات ومفرِّق الجماعات" وانتهاء مرحلة الحياة، فما أعظم تلك الساعة، وما أشقى صاحبها!.

   إنها ساعة الفراق والرحيل إلى غائب مجهول، والإنسان عدو ما يجهل.

لقد نسي الإنسان أن مع الحياة موتاً، ومع الدنيا آخرة، بل غفل عن تلك الساعة التي يجرَّد فيها المرء من جميع ما يملك، حتى ملابسه التي على جسده، ثم يساق إلى القبر فريداً وحيداً، بلا أنيس ولا جليس، ولا فراش ولا مستند مادي، إنه الأجل قد حلَّ وجاء، وما أصعب العيش بعد فقدان الأمل. فهل يغني عنه ماله؟ وهل يدفع عنه شيئاً مما سيحل به؟ ولو كان ملء الأرض ذهباً، في ذلك القبر الضيق، والظلام الدامس!. هذا الذي اعتمد طيلة حياته الدنيا على أنوار مادية، وعلى حواس جسمية، لا على أحوال قلبية إيمانية، ومشاهداتٍ ربانية، الآن أضحى الجسد جثة هامدة، وزالت الحواس، وفقد النور البصري، وبقي المسكين غارقاً في الظلمات رهيناً، فمن هو؟ وأين هو؟ ومن أتى به إلى هذه الدنيا؟! النفس والجسد غريبان، والمكان مظلم ورهيب.. إنه انتقال سريع ومفاجئ، فأين الصاحب والحبيب، والمال والبنون؟..

إنه سجن وأغلال وقيد ثقيل، لا مفرَّ منه يومها ولا مخرج، لقد انطفأت آخر شعلة بالمصباح، وانقطعت الحياة، وانهار أساس ذلك البرج الذي بناه على الرمال:

يا من بدنيـاه انشـــــغـــل وغرَّه طــــــــول الأمــــــل

المــوت يــأتي بغــــتــــة والقبــــر صنـدوق العمــــل

فأين السعادة المرجوة، إذا كان هذا هو المصير؟ وأين السرور والحبور، إذا كانت النهاية تنحصر في هذه الحفرة؟ أين النعيم المقيم والصفاء المنشود، إن لم يعرف الإنسان الخالق أو لم يتعرف عليه، إذ المصير الحتمي إليه، والحياة الأبدية به وإليه؟!..

وبعد هذه الجولات وجد الفريق العلمي الكبير أن الرفاهية لدى الأغنياء طعامها ذو غصة، وأن عليها لشوباً من حميم، والسعادة المنتظرة التي كان الأغنياء يحلمون بها، إنما كانت كسراب بقيعة، يحسبه المترفون ماءً فيه الحياة والهناء، فلمَّا جاؤوه لم يجدوه إلا وهماً وضنكاً، وكان المال مبعثاً لشقائهم وضياعهم عن السعادة الأبدية الحقيقية. وعند الموت ينزلون قبورهم عراة، لا يأخذون معهم درهماً ولا بنساً.

   في سماء الفقراء:

عند هذه النتيجة غير المتوقعة بادئ ذي بدء، قام الفريق الباحث عن السعادة ويمَّم وجهه نحو البسطاء والفقراء، علَّه يجد السعادة عندهم، تلك الطبقة الكادحة في المجتمع التي تسعى وراء لقمة العيش، لترد شبح الموت جوعاً أن يفترس أفرادها.

وعند السؤال ظهر السخط والتذمر، وعدم الرضى هو الجواب، وفُتح الباب ليُسفر عن منظر رهيب من الكآبة والقنوط، واليأس وفقدان الأمل، فكل فقير يندب حظه التعيس، أن قضى عمره في القلَّة والحرمان، وينشد أناشيد يحلم فيها أن يكون له كما للأغنياء (أهل السعادة بظنه وخياله) من مال وفير، وغنى كبير، وقصور تناطح السحاب، فنراه يكدّ ويسعى لبلوغ أمجاد كبرى، ولكن دون جدوى، يخال في مسيره نحو أحلامه أنه سوف يصل للسعادة إذا كان لديه ما للأغنياء من رفاهية وبحبوحة في الحياة، فالجوع قد عضَّه بنابه، والحاجة مزَّقت رداءه، والفقر قرض بنانه، فليس للسعادة من سبيل لدخول بيته، أو حتى أن تطير فوق سمائه.

هذا لأن طبقة الأغنياء قد أفسدت معيشته، فبيته الذي كان في عينه جميلاً، قد أصبح كوخاً حقيراً أمام القصر المنيف الذي شيد إلى جانبه، فالإنسان يظل راضياً بمعيشته في مجتمع متوازن، أما إن حصل التفاوت، عندئذ ينظر إلى ما كان يستحسنه بالأمس ويرتضيه، نظرة ازدراء واحتقار، ويحل بساحته الضجر والسخط، والتبرم من الحياة.

فلقد أفسد المترفون على السواد من أفراد المجتمع حياتهم، إذ ليس بوسع الناس جميعاً أن تبني قصوراً، وتقتني أثاثاً فاخراً فخماً.

لهذا نرى الفقراء وقد ملأ الحقد نفوسهم، وسيطر عليهم حب الانتقام، ولا عجب أن يتكتلوا ضد الأغنياء، ليُسْقِطوا فوق رؤوسهم فؤوساً، ويسقوهم كأساً علقماً، كما هم بسببهم تجرعوه.

هذا نتيجة الظلم والاستغلال الذي يمارس عليهم بظنهم من قبل الأغنياء، من أجل لقمة العيش وستر للحال، فذاقوا بسببها الذل والهوان، إنها حقيقة تطوف البلاد، وتمر بها العامة من الناس، إنها فقدان السعادة من كلتا الطبقتين على السواء، واستبدالها بالأحقاد والسخط والتبرُّم والضغائن وعدم الرضى، جراء التفاوت الطبقي بين الفقراء والأغنياء.

فالعمال الكادحون تراهم يخططون لإحداث انقلاب أو ثورة على أرباب العمل والانتقام منهم، لأن أولادهم في الرفاهية يتيهون، وبالدفء والطيبات يتمتعون، أما أبناء هؤلاء الفقراء ففي الحرمان يشقون.

وكذلك الفلاحون يثورون ضد الإقطاعي المستبد، إلا أن الأخير يضع كعب رجله على أفواه الألوف من ذوي الحقوق، فيقهرها ويخرسها عن المطالبة بحقوقها المسلوبة بنظرهم.

فالمترفون يزدادون غنى وتسلطاً واستغلالاً، والمحرومون يزدادون فقراً وعبودية وحقداً وإذلالاً.

أمام هذه الصراعات والأضداد، وقف الفريق الباحث عن السعادة خلف جدار منيع تلفُّه الحيرة، وتحيط به إحاطة السوار بالمعصم، فعبثاً صرفت اللجان العلمية العليا الباحثة عن السعادة الجهد في البحث والتنقيب، وهباءً ضاعت المساعي، فلم يعثروا على أثرٍ للسعادة لدى الأغنياء المترفين، ولا عند الفقراء البسطاء.

   في سماء الفتوّة والشباب:

عندئذ يمَّم الفريق وجهه شطر فئة أخرى رمت من على عاتقها أعباء المسؤولية، وتكاليف الحياة الشاقة، إنهم الناشئة من الشباب والفتوة، على أمل إيجاد السعادة الضالّة المفقودة، علَّه يجد السعادة عند هؤلاء الذين لا زوج لهم ولا ولد، ولا مسؤولية يتحملونها.

أخذ الفريق العلمي يستقرئ أوضاعهم عن كثب، ويستجلي غور حياتهم، هل هم الذين ينعمون بالسعادة المطلوبة؟ إذ أن حملهم خفيف، وتدفق الحيوية لديهم بأوجها. ولكن عند التقصي والاستجواب وُجد أن كل شاب أعزب يُغَني على ليلاه، وهو عن سبيل السعادة قد تاه.

لا رضى لأيٍّ منهم بالحال الذي يعيشه، وهو يضم بين جوانحه أحلاماً ذهبية يهفو إلى تحقيقها مستقبلاً، فكل شاب يحلم بحياة زوجية يسكن إليها، تروي ظمأ قلبه الذي أقلقه طيف الحياة الجنسية، وأشعلت الأرق في نفسه، فلقد فعلت الشهوة الجنسية في نفوس الشباب كما تفعل النار في الهشيم، وكان لسان حالهم يقول:

(NO LIFE WITHOUT WIFE) أي لا حياة بلا زوجة، ظنّاً منهم أن السعادة تكون عندما يحصلون على زوجة يتمتعون بها، فينالون السعادة باقي عمرهم، وينالون أقصى مناهم.

عند ذلك أدار الفريق الباحث عن السعادة بحثه العلمي نحو الحياة الزوجية وإلى الفئة المتزوجة من المجتمع، بحثاً عما يزعمه الشباب من أن السعادة عند المتزوجين، فوجد أن كل رجل مقترن بامرأة، يرنو ببصره إلى تلك الأيام الخوالي، التي كان فيها حرّاً طليقاً من قيود وأعباء الحياة الزوجية، التي تفرض عليه نظماً وقوانين كان بغنى عنها أيام عزوبته.

فخروجه من بيته أصبح يُسأل عنه، وتأخره محاسب عليه، وكذا تصرفاته والأماكن التي يزورُها، أصبحت مخصوصة بأيام محدودة، وغيابه عن البيت يسبب له مشاكل وصراعات تفقده روح المحبة والألفة والصفاء، فكل لقمة بغصَّة.

فالزوجة تطالب بحقوقها، والأولاد يحتاجون لوقت مفرَّغ لهم، كما لا يخلو الأمر من القال و القيل، بين أفراد أسرتها وبينه، وبين أفراد أسرته وبينها.

والحقيقة كل الحقيقة، أن اللذَّة الجنسية لا تجلب سعادة، إنما قضاء شهوة آني يتكرر كل حين، بنفس المستوى ولا جديد، ثم الملل بعد فترة من نفس اللذَّة بنفس المستوى، لاسيَّما إن كان هناك خلافات.

ومن خَبَر الغواني فإنهن. ضيــــــاء في بواطنه ظلام

فالمرأة لا يطيب لها ما يحلو لأهل زوجها، ومن هنا تبدأ المنازعات، وتتفاقم المقاومات، حتى تشل كل حب ووفاء، ويقف هذا الزوج المسكين مكتوف الأيدي، لا يدري نهايةً لتلك المنازعات، أو حلاً مجدياً لها إلا أن يخسر أهله وذويه، أو يضحي بزوجه، وتكون التفرقة، ويتمنى أنَّه ما بدأ هذا المشوار، وكل هذا يسبب له الخيبة في السعادة المنشودة والهناء التي كان يحلم بهما عندما كان عازباً ينعم بالحرية، ويحصل على ما شاء بلا همٍّ ولا مسؤولية ولا خصام، فلم تتحقق تلك الأماني العذبة الحلوة، وأصبحت السعادة المنشودة سراباً مشوباً بالخصام، وفقدان المحبة القلبية والوئام.

وأصبح الفريق العلمي الباحث يقلِّب كفيه حائراً في أمر السعادة، فكل فرد جاء يشكو دهره "ليت شعري هذه الدنيا لمن"؟ وأين السعادة؟! لا سعادة... كل ما زعموه عنها كلام.

   في سماء الطفولة:

ولكن بقي بصيص من النور يتسرب إلى فريق البحث العلمي، إذ انطلق إلى الأطفال الأبرياء، والصبيان المرحين، من أجل هدفه المنشود وهو السعي وراء السعادة المنتظرة، ولم يجد بأساً من استنطاقهم، هل هم سعداء بحياتهم التي لا يعكِّر صفوها مشاكل وتعقيدات المجتمع المتعاكسة؟ فوجدهم ينتظرون السنين لتدور دورتها وتوصلهم إلى سن الكبار الذين حولهم، فيصبح لهم كما للآخرين من قوة وقدرة مالية وحرية رأي، فكل غلام في بيت أبيه يتذمر ويتأفف من هذه القيود والقوانين الاجتماعية وغيرها، والتي يخضع لها جبراً وتحجز حريته.

فمنذ الصباح ينتظر هذا الولد الصغير تساقط التعليمات على رأسه والإرشادات الأبوية التربوية أن: اذهب، لا تتأخر، لا تصاحب، لا تقل، لا تفعل، لا لا.. ثم القيود المدرسية، إنه يمج حياته من تلك القيود التي يخضع لها وتحجز حريته، فهو ساخط على وضعه يتمنى الإسراع بالنمو، لينال الحرية وملْك التصرف والسعادة، ليغدو حراً طليقاً مما يمارس عليه من أوامر وفروضات، وعندما يكبر الأولاد يغدون شباباً ورجالاً يجلسون في أوقات صفائهم يتذكرون حياتهم الحلوة البريئة في سني طفولتهم، فبهجتها بظنهم لا زالت في مخيلتهم، وأفانين اللعب والمرح تمرُّ أمام ذاكرتهم وهم يتمنون في صميمهم أن يعودوا لطفولتهم ولا يكبرون، ولكن لم تكن هناك سعادة عند الأطفال أنفسهم حقاً، بل كانوا أسرى القيود الاجتماعية والأسروية والتربوية، يأملون بالحرية والخلاص من كل ما يكبت رغائبهم، بل يظن الآخرون أن السعادة عندهم. إذاً لا سعادة أيضاً عندهم. فهل من المعقول أن تكون السعادة حقاً مفقودة؟!..

  وانسدت الطرق أمامهم:

نعم لقد وصل الفريق العلمي الباحث عن السعادة إلى طريق مسدودة بعد دراساته المختلفة لجميع شرائح وطبقات المجتمع المتعددة، فقالوا: إن السعادة غاية لا تدرك، وهي كالزئبق تفر من البنان، فليس للعلم وقوانينه للوصول للسعادة من سبيل، عندها ظنوا وقالوا إن السعادة وهم وخيال.

ولكن يبقى السبيل للوصول إليها حلماً يدغدغ أفكار العلماء والفلاسفة، ظانين أنهم بما يحْدثونه من نظرياتهم أو من حضارة مادية وتقنية علمية متطورة، يوماً ما سوف يستطيعون إخضاع الطبيعة، لتنجب لهم مولوداً يسمونه "السعادة"!.

هكذا يزعمون، إلا أن الواقع الذي لا مفرَّ منه يكذِّب أحلامهم، وينقض فرضياتهم، فحضارتهم تلك أنجبت دماراً وقتلاً وخراباً وجوعاً وحرماناً، وسفكاً للدماء، وصراخاً للأطفال الأبرياء بما خلَّفت من وسائل الحروب المدمرة التي لا تبقي ولا تذر أمامها أحداً من البشر، بأزيز رصاصها ودوي قنابلها التي تصم آذان أهل الأرض، وأعني بها الرؤوس النووية وأسلحة التدمير الشامل.

هذه الرؤوس النووية المحمّلة على الأقمار الصناعية، التي تهدد العالم بالفناء في لحظة سقوطها على الأرض، راحوا يتسابقون لإيجاد واختراع أسلحة أكثر تدميراً، وأشمل هلاكاً للحرث والنسل، حجتهم في ذلك: (إذا أردت السلام فتهيأ للحرب)، هنا طارت السعادة والأمن والاطمئنان. حقاً لقد ضلوا سبيل الوصول إلى السعادة.

بيد أن الإله الرحيم لم يوجد في هذا الكون الفسيح أية وسيلة للدمار والتخريب، وما خلق للإنسان ناباً ولا مخلباً حتى يفترس أخاه الإنسان، بل أهدى إلينا الورود والزهور والرياحين الشذيَّـة النضرة العطرة التي تأخذ بمجامع القلوب لخالق جمالها. والثمار الطيِّبة المذاق، والنبات المتدفق بالحياة، والينابيع الرقراقة النضرة، والأنهار العذبة، فمن أسمائه تعالى ((السلام))، فقد أمَّن لنا ما يعود علينا بالسلامة والهناءة والسرور، والحياة الطيبة والحب الخالص الطاهر السامي، فخلق لنا في آياته الكونية جمالاً أخَّاذاً حين يرسل لنا قطرات الندى، تُحيي أوراق الأشجار اليانعة كل صباح، بأرق وأعذب التحيات المترعة بالحياة.

ويغمرنا بأشعة الشمس الدافئة المتدفقة بالأنوار وما فيها من الحيويات، ويتحفنا الرحيم الشفوق ويطربنا بزقزقة العصافير وزغردة شدو البلابل وتغريد الكراوين، وخرير المياه الطروب وحفيف الأشجار اللطيف.

فالخالق الكريم ما أوجدنا إلاَّ ليكرمنا ويمنحنا من مزيد فضله وبره، ويكلؤنا بعيون رعايته وكرمه، إذ حوَّل تعالى عظمته وجبروته وقوته، إلى رحمة ولطف وحلم ورأفة، فخلق لنا قمراً منيراً مكللاً بحلل الجمال والبهاء، ونجوماً وأجراماً عظيمة، ظهرت لنا كمصابيح لطيفة هادئة تزين بالليل السماء، ولم يسقط كسف الغيوم والسحب كالجبال، بل قطرات صغيرة و ودْقاً [90]مفعماً بالحياة، تتجلى فيه رأفة الإله وودّه وبركاته. هذا صنع الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟!.

وهو الذي منح كل شيء خلقه ثم هدى الإنسان لما فيه السلامة والسعادة والأمان.

فالله تعالى لا يريد لعباده الظلم والأحزان، ولكن هم استحبوا العمى على الهدى، واختاروا القتل والتدمير والظلم والعدوان، تنافساً على الفاني الزائل، بما أحدثته الثورة التقنية من طغيان مادي شامل، أغرق الأنفس في ظلام حالك، فسدَّ عليها منابع النور، وحجبها عن مواطن الأمن والأمان، زاعمين أنها توصلهم للسعادة بما يكتشفون من العلوم والاختراعات، والتي لا تلبث أن تغدو ابتداعات جهنمية، وتسابقاً نحو التسلح للدمار والفناء، ولم يخطر ببالهم أن ما عند الله خير وأبقى، فأشاحوا بوجوههم عن الإله العظيم، مبدع الأرض والسموات، الذي خلق كل شيء ويخلق، وأوجدنا من قبل ويوجد.

واتجهوا لعلمهم المدمر، فجعلوا منه إلههم، مما سيعود عليهم حتماً بالويلات.

أللشقاء خلقنا؟.

فهل من المعقول أن ينفي الخالق الرحيم والمبدع للسموات والأرض السعادة من الوجود، ويجعلها غاية لا تُدرك، ليتخبط الإنسان من أجل الحصول عليها خبط عشواء، باحثاً عنها دون جدوى ولا نتيجة؟ الحقيقة أنه تعالى لم يوجدنا إلا من أجل نوال السعادة الكبرى دنيا وآخرة.

أقول: إن فاطر السموات والأرض، قد أبدع الوجود على غاية في الدقة والكمال، وغاية في الإبداع والجلال، تاركاً للإنسان مجالاً لكي ينظر إلى السماء كيف رفعت، وإلى النجوم كيف حبكت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى البحار كيف ملئت، ومَنْ العظيم الذي ملأها، وإلى الأرض وما بث فيها من دابة، كيف خلقها ورزقها، وإلى ما أنبت فيها من كل زوج بهيج، سقاه تعالى من سنا جماله سبحانه. ترى من الذي قام بكل هذا ويقوم؟ ومن الذي أمدَّ ويمد الوجود بالوجود في كل آن؟.

ثم جعل جلَّ شأنه شرائع وقوانين، متوافقة مع الفطرة التي فطر الإنسان عليها، وهي تهدف إلى السعادة في الدنيا والآخرة، بنيت على مبادئ قويمة، تنهض بالأنفس لتسمو بها لربها وتربطها بخالقها، وبهذه الصلة نحصل على السعادة، إذ منه تعالى الخلق والحياة، والإمداد بالطعام والشراب للأجسام، والسعادة الكبرى الدائمية للنفوس والقلوب المترعة بالخير والغبطة الأبدية والكمال، وكمال الكمال. فالسعادة من الله وبالصلة به تحصل. نعم بالصلاة تُنال كل سعادة، والصلاة نتاج الإيمان الذاتي ومشاهدة الآيات، فالمؤمن سعيد، فهو بارتباطه القلبي بأسعد خلق الله بالله، تغمره شلالات النعيم المقيم، والهناء والأمان والجنَّات.

والمؤمن بالله حقاً هو السعيد، فربُّ كل شيء هو رب السعادة، والسيْر بقوانينه يوصل المرء حتماً للسعادة، التي لا شقاء بعدها، بل سعادة تتلوها سعادات، والله لا نهاية له، كذا السعادة به دائمية سرمدية، متزايدة متنامية، فبالسعادة من الله، يغدو المرء في جنات متسامية متعالية، لا ملل ولا شقاء، بل بقاء في السعادة الكبرى أبد الآباد، إذ لا تقتصر على الدنيا بل بالبرزخ والآخرة وللأبد، عندها نستطيع أن نتحرر من عبودية المادة، التي ما أن تستولي على النفوس حتى ترديها، وتجعلها تعيش معيشة ضنكاً، وبالإيمان بالله والاستقامة، تغدو المادة وسيلة لنوال الخيرات والجنات، بفعل المعروف وفعل الخيرات.

   كيف يتحقق عنصر الرضى؟

وبالإيمان، والصلة بالله، والصلاة الحقيقية، يتبدد الخوف، ويزداد الرجاء كلما تقدمت بالإنسان السنون التي تقربه من المصير المحتوم، عندها لا يتضجر إذا أقبلت الدنيا عليه أو أدبرت، وكذلك لا يبالي إذا اعتلَّ أو أصابته مصيبة، لأنّه يعلم أنَّ الحياة الدنيا ليس لها بقاء، وأنَّ الشفاء النفسي خير وأبقى، وبه نوال الجنات والمكرمات بالديمومة اللانهائية، وبعد الشفاء النفسي يتم الشفاء الجسمي، وما هذه الدنيا بدار بقاء. والحقيقة أن السعادة في الرضى، رضى المرء بما هو فيه، كيفما تقلبت الأيام، وتبدلت الأحوال ودار الزمان، ذلك لأن المؤمن بربه حقاً، يغمر قلبه نور حقيقي من ربه، يشع في قلبه نعيماً بصلته بربه، لا يستطيع الواصفون وصف ما فيه من سرور، تعجز الدنيا ومباهجها عن الإتيان بجزء بسيط منه.

هذه السعادة ليست مادية، بل هي من الله خالق الجمال، والطمأنينة الأبدية تحصل بالصلاة، وإليها حقاً دعوة أنبياء الله، وبها الرضى والنعيم، عندها تتم لك السعادة، فترضى بما أنت فيه، إن كنت مريضاً مدنفاً لا تستطيع حراكاً، أو فقيراً معدماً لا تملك قليلاً ولا كثيراً، السعادة أن ترضى وتطمئن نفساً بكل ما يعترضك من أحوال الحياة، حلوها ومرها، عسرها و يسرها، فإذا ما استوت لديك الأحوال، ورضيت بها فقد حصلت على السعادة، بسبب صلة نفسك بربك، منبع السعادة ورافدها، وما سوى ذلك مادمت منغمراً في الدنيا، فإنك لن ترضى بما أنت فيه، وليست لنفسك صلة بالله منبع الخير والنعيم، فما أنت من السعادة في شيء.

وتعجب من قولي هذا فتتساءل مستنكراً، أمن الممكن وهل من المعقول أن يكون المرء راضياً، وقد أضحى في حزن الحياة من بعد سهلها، وأصابه عسرها من بعد يسرها، وذلها من بعد عزها؟! ومن الذي يرضى بما تقول، إلا أن يكون جماداً قُدَّ قلبه من صلب الصخر، أو أن يكون مستيقناً بما يتلو هذه الشدة والعسرة، من رفعة تفوق أضعاف ما كان فيه من بسطة وسعة؟.

وفي الجواب على هذا أقول: لك كل الحق في ما قدمت من قول واعتراض، وأن ليس من السهل ولا اليسير أن يرضى المرء بما حل به من مكاره وشدائد وضائقات الدهر، لكنه إذا علم مستيقناً أن هناك يداً واحدة تتصرف في هذا الكون، وتسيِّره ضمن العدالة والحكمة، ووفق الرأفة والحنان والرحمة، وذلك بالتوصل من الآيات الكونية، للمكوِّن جلّت عظمته، ومن الصنع العظيم للجبال والبحار والسموات، لصانعها ومبدعها، فتسلك كما سلك أبوك أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فتتوصل من آلاء الله، إلى الإله الخالق، خالق الجمال، والمتفضل بالسعادة، فيغدو قلبك راتعاً في النعيم المقيم. فإذا ما عرفت ربك، عندها تعلم أن يده تعالى، المسيِّرة للكون، وإرادته الحكيمة المدبِّرة التي اعتنت بك وربَّتك في بطن أمك، وخلقت لكَ السمع والبصر والأسنان، ولم تنسك طفلاً رضيعاً، ولم تنسَ تسيير الكون وإنزال الأمطار لطعامك وشرابك، هذه الحضرة الإلهية هي أرأف وأرحم بك من أمك وأبيك، وصاحبتك وبنيك، حتى من نفسك التي بين جنبيك، وأنها لا تسوق لك إلا ما يكون سبباً في صلاحك، وبما يعود عليك بالخير العميم، وإنَّ ما أصابك إنَّما أصابك بسبب ما قدمت يمينك، وأنَّ هذا المَصابَ ليردَّك عن الخطأ للصواب، والخير و الهناء.

وكل ما يسوقه تعالى لهذه النفس دواء مناسب، بحسب حالها وبحسب اقترافها، وما ذاك التسليط من فقر وفاقة، وسجن وعذاب وتنكيل وتعرّض للقتل والإعدام، إلا لتستسلم النفس إلى الله، وتعلم أنَّ ما أصابها من الشدة والبلاء إن هو إلاَّ بما كسبت يداها، وبسبب ما وقعت فيه من إجرام، فتصدُق وتلتجئ لله فترى إجرامها، فترجع عنه وتتوب توبة نصوحاً فتشفى، فيعود عليها ربها بالصحة والجاه والمال، لتنفق وتنال خيري دنياها وآخرتها، وما أسرع ما تنكشف لها الحقيقة، وتعلم أنْ لا إله إلاَّ الله، وأنَّ الفعل كله بيد الله، وأن الشدة التي حاقت بها إن هي إلاَّ محض رحمة وفضل وإحسان من الله، فتشكر الله على البلاء، وتشكره على ما ساق لها من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، ولو لم يُسلَّط عليها ذلك البلاء والشدة، لظلت محرومة ممنوعة من الخير، والحمد لله على ما أصابها، وله الحمد على كل حال، ولا يُحمد على مكروه سواه، لذا تبقى تلك النفس التي وصلت لهذا الحال، مسرورة راضية مرضية من الله تعالى.

نقطة هامّة جداً:

أقول: إذا عرف الإنسان هذا حق المعرفة، لا بل إذا آمن بهذا حق الإيمان، ولا يتم ذلك حقاً وصدقاً ما لم توقن نفسه بساعة الرحيل من الدنيا، التي لا بدَّ منها حتماً، فتشيح عن دنياها، وتصفو من كدوراتها، ناظرة متأملة في صنع خالق الكون ومخلوقاته السماوية، فتصل من الخلق للخالق كما ذكرنا، ومن الصنع للصانع العظيم، فتلمس وجوده، وترى طرفاً من نوره، فتتيقن من أنَّ الإله مع آلائه وآياته الكونية، ومع الإنسان يرفده بالحياة ويحرك له قلبه ورئتيه، بعد أن خلقه نطفة فسوَّاه فعدله رجلاً، إذاً: الإله موجود يقيناً، فأنا مسؤول تجاهه، وهو منشئ المخلوقات، وهي نسيج صنعه، فلا يحق لي التعدي على حرماته، فيعلم ويشهد قلب المرء بوجود يوم الحساب به تعالى، فيستقيم، ولن يؤذي نملة، بل يفعل ما فيه الخير والرحمة للمخلوقات.

فأي عمل خير، بعد أن كف عن الضرر، يورث نفسه ثقةً برضى خالقه عنها، فتسري النفس راضية بعملها الطيب للإله، وتحظى حقّاً وحتماً بالسعادة من خالق السعادة، خالق كل جمال، والمتجلي على الأكوان وعليه، بصفات الإحسان والسرور والهناء والعطاء والنماء، المانح للكل ما فيه الخير والكمال.

عندها يشهد هذا المؤمن فضل الله وعطاءاته، ويلمس حبَّه ويذكر فضله مذ كان في بطن أمه، وكيف أمدَّه ويمد الجميع بالغذاء والحياة والنماء، فيَهيم به حبّاً وثناءً وتقديراً، ويحمده بكل جارحة من جوارحه، فيشعر ويلمس ويذوق نعيم اللقاء مع هذا الرب المنعم المتفضل، ويؤمن بأن الحمد، أي الثناء النفسي، كله لصاحب الحب له ولكافة خلقه، والعطف واللطف يغمره منه، ويغمر العالمَين، فيعلم حقيقة الحمد لله رب العالمين.

الحمد لله على كل حال:

وإن شئت فقل إذا آمن الإنسان حقّاً بكلمة: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ} فهنالك يطمئن قلباً، ويهدأ بالاً، ويستسلم كل الاستسلام، ويرضى بتصاريف القضاء رضىً يجعله لا يضطرب لحال، ولا يتألَّم من تبدُّلات الزمان، وكيف يضطرب ويتألم وهو يرى أن هذه اليد الرحيمة، والإرادة العطوفة الحكيمة، ما منعت عنه إلاَّ لتعطيه، وما أخذت منه القليل إلا لتمنحه الكثير؟! ثم كيف يتألم أو يضطرب وهو يرى قربه من تلك الذات العلية، ويشهد من كمالها، ويرى من جلال أسمائها وجميلها، ما يتوارى خلفه كل ما سواه؟ ويشعر المؤمن بنعيم قربه تعالى ولذيذ وصله، شعوراً ما تعدّ لذائذ الحياة كلها إلى جانبه وبالنسبة إليه شيئاً مذكوراً، فيعود من بعد تلك المشاهدات بصلاته وصلته بربه، والفضيلة تزينه، وحب الإله والرضى بتسييره الخيِّر على كل حال، غنيمته وعدّته في خوض غمرات الحياة.

وهكذا لا ينال المرء السعادة الحقَّة، إلاَّ إذا كان راضياً، ولا يرضى حقّاً، إلا أن يكون مؤمناً بخالقه، مستسلماً إليه، شاعراً بحنانه ورحمته، خاشعاً ببصيرته دائم الإقبال عليه، ومنه تعالى قريب، عندها يغدق عليه جلَّ وعلا من عظيم فيوضاته وبحور أنواره، لينهل من لآلئ ضيائه الباهر المونق المغدق المشرق، ويرتشف من ينابيع حبِّه ماءً غدقاً، لا يظمأ بعدها أبداً، فيغدو في النعيم المقيم بنوال تعاظمي، لا سأم فيه ولا ملل ولا ضجر، هذا المؤمن قد غدا مع الذين أنعم الله عليهم بالفردوس القلبي نزُلاً، لا يبغون عنه حِوَلاً، يرون نوره تعالى، وبنوره يرون عظمته وجماله وبهاه، فهم في "السعادة" الكبرى في دنياهم قبل آخرتهم: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[91]: جنة في الدنيا وأخرى في الآخرة. تلك هي الحياة الباقية السرمدية التي لا حدَّ لها ولا انتهاء، وما الحياة الدنيا تجاهها إلاَّ طرفة عين أو أقل من ذلك. ألم تسمع ما قاله المؤمن أبو يزيد البسطامي حين قال: "إن في قلبي نعيماً لو اطَّلع عليه الملوك لقاتلوني عليه بالسيوف"، أي لو ذاق الملوك بقلوبهم وشاهدوا فيوضات الخالق عليّ بصلاتي به، لصغر ملكهم بعيونهم، وزهدوا به، بل لتخلوا عنه، طالبين السعادة التي نِلتُها بالله ومن الله، كما تخلَّى سحرة فرعون حين اتصلوا بالله، بواسطة سيدنا موسى عليه السلام، فأشاحوا عن ملك فرعون، وضحّوا بالدنيا تجاه ما نالوه من السعادة من الله بإيمانهم بربِّ موسى عليه السلام، وحين هددهم فرعون بالموت وخسارتهم للدنيا قالوا: أمَّا الدنيا فلا قيمة لها تجاه ما نلناه من ربنا، والله خير وأبقى، إنه من يأت ربه مؤمناً فإن له الجنات العلى.

فطوبى لمن آمن وأفلح في دنياه، وفاز بالإيمان نوالاً بتقربه إليه تعالى بالعمل الطيب، فهذا هو الفلاح والفوز المبين، وبه السعادة الدائمة التي لا تزول أبد الآباد: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[92]: إذاً لا فلاح دون إيمان.

أما الذين أعرضوا عن خالقهم وكفروا بربهم، واهتموا بجمع الدرهم والدينار، فليس المال بمؤمِّن لهم ما يتطلبون من السعادة، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله الكريم: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً..}[93].

ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكــل نعيــــم لا محالـــــة زائل

فكل ماعدا الله سراب تظل النفس متمتعة به فترة، ثم يزول وكأنه ما كان، وتبقى آثاره المخزية التي تورث الشر والهم والكدر "وتكون نتيجة ما جنت يدا الإنسان من سوء عاد عليه بالسوء، والله صاحب الأسماء الحسنى، لا يصدر عنه إلاَّ الإحسان والسعادة للإنسان".

فهل تريد أن تهنأ بالعيش الرغيد، وترتع بمراتع الهناء والحبور، أو تبتغي الطمأنينة والراحة التي لا تعب ولا نصب يمازجها، أترنو للضحك البريء الهنيء الطافح النابع من ثنايا ينابيع كل ذرة بجسمك ونفسك، أم تطمح للسعادة الأبدية التي لا تسمح لنغص ولا همٍّ أو غمٍّ أبداً أن يدخلها، و أن تغدو الحياة كلها وبكل أحوالها ووجوهها سعادة وهناء ونعيماً، فوقه نعيم متنوع يتقلب لمسرات أشهى وأحلى وأبهى، محبة يتلوها حب بكل شيء ولكل مخلوق، وكل ما حولك يبعث فيك السرور، وحقاً بقلبك المترع بالنعيم تناله ولن تفقده أبداً؟.

أقول: إن كنت تحب نوال هذا كله، فآمن بالله، واعتز أيها الإنسان بربك، في جميع أوقاتك وسكناتك وحركاتك، وكن ملتجئاً إليه طيلة حياتك، إن آمنت بذاتك به، عندها تَذَكَّرْهُ في قيامك وقعودك، محتمياً به تعالى من جميع الشرور والنغص والأكدار والرهق، مستمداً منه تعالى الحياة الطيبة والسعادة الخالصة الحقَّـة، فهو سبحانه خالق كل شيء، ومظهر الأشياء من العدم إلى الوجود، وموجد السعادة في خلقه تعالى لك، وهو الممد بها، فأقبل عليه تعالى، يمنحك إياها مع الغبطة الأبدية، وإن تركته لسواه، فقدتها وغدت الحياة مُرَّة وشقاء بكل وجوهها.

كيف السبيل؟

ولسائل أن يسأل: كيف لي أن أحتمي بالله وألتجئ إليه؟ وكيف السبيل لهذا حتى أصل للسعادة وما يتلوها؟!.

الحقيقة ما الحياة الدنيا إلا مدرسة لها ما بعدها.

أرسل الله تعالى الإنسان للدنيا ليعدَّ نفسه فيها، إلى تلك الحياة الآخرة بعد الموت، ومن كبير عنايته تعالى بهذا الإنسان وعظيم رحمته، أن جهزه في هذه الدنيا بجميع ما يلزمه ويساعده على الوصول إلى ما أراد له تعالى من السعادة الكبرى، لذلك خصَّه بتلك الجوهرة الثمينة والجهاز العظيم، وأعني به الفكر، الذي بواسطته يحلِّلُ الإنسان ويركِّب، ويستقرئ ويستنتج، فيعود بنتائج شتى، ويتوصل إلى عقل الحقائق التي هي وراء الصور وكنهها، كما جعل له السمع والبصر وسائر الحواس، خادمة ومعينة لهذا الجهاز في بحثه العلمي، وطلبه الوصول إلى الحق والحقيقة والسعادة، حيث يتوصل إلى عقل حقيقة الوجود الإلهي، رب السعادة ومفيضها.

ومن عنايته تعالى بنا أن جعل لنا في هذا الكون لا بل جميع ما في الكون، من أرض وسماء وما فيهن من مخلوقات، حتى الإنسان ذاته وما احتوى جسمه من أجهزة وأعضاء، كل ذلك جعل تعالى فيه من عظيم الدلائل والآيات، ما يساعد الإنسان على بلوغ منازل الإيمان، التي بواسطتها يعتز المرء بربه ويلتجئ إليه، مستعيناً دوماً بذكرى الموت والمقابر، حيث المصير الحتمي الدنيوي قبل منازل الآخرة. هذا هو الركن الأساسي الذي تتوقف عليه السعادة. فلا سعيد حقاً إلا المؤمن.

السعادة لا يمكن أن ينالها إنسان دون الإيمان بالله، مهما جدَّ وكدَّ، ومهما قدَّم من أعمال.

أما المال الذي يمد الله تعالى به الإنسان في هذه الحياة، وكذلك البنون والأزواج، والجاه والسلطان، والعلم والقوة، والوظائف والمناصب العالية، وجميع ما يتفضل به الله تعالى علينا، ما كل ذلك إلا أسباباً جعلها بين أيدينا وأكرمنا بها، لنتوصل بسببها وبواسطتها إليه تعالى، فنكسب منه صفات الكمال والأخلاق الحسنة، ونستنير بنوره تعالى، فنرى الخير من الشر، وما من أحد يرضى لنفسه الشر، لكنه عمى القلوب يري الإنسان الشر خيراً، فإن غدا الإنسان بصيراً انطلق لفعل الخير وترك الشر، عندها ينطلق إلى فعل المعروف والإحسان لكافة بني الإنسان دون تمييز، بل لكافة الخلائق، فهي نسيج الإله الرحيم، وعندئذ نكون أهلاً لأن نأوي إلى كنف الرحيم، ونستغرق في تلك السعادة الكبرى الممتدة من حياتنا الدنيا إلى أبد الآباد، سموّاً وعلوّاً وازدياداً بالسعادة الحقيقية.

فبسعيك و اجتهادك في طريق الإيمان بالله العظيم الخالق الكريم لك وللخلق، وأداء ما عليك من واجبات، وإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم، عندها تثق نفسك برضاء خالقها عنها، فتقبل عليه، وتلتجئ إليه، لتشتق منه تعالى الضياء والهناء والسعادة. أقول: إن المؤمن الذي نوَّر الله تعالى قلبه بالإيمان، يدرك المراد الإلهي من خلق هذا الكون، والغاية من إرسال الإنسان إلى هذه الحياة الدنيا، فإذا أنت سلكت الطريق التي شرعها لك ربك، وإذا عرفته تعالى وآمنت به حق الإيمان، وأقبلت عليه و عُذت به، فإنك يقيناً لأنت السعيد السعادة الحقيقية، التي تمازج النفس، وتخالط ذراتها فتسري بها سريان الكهرباء بالأسلاك، وجريان الماء في الأغصان، وهذه تنالها بالصلاة الحقيقية بالله، وليس أحد من أهل الدنيا بسعيد مثلك، لأنك عالم بما تجنيه كل يوم من الخيرات، ونائل الخير من رب الأرباب كلها. فتتم لك الخيرات ونوال المكرمات، سواء ببذلك المال، أو بمد يد المعونة لذوي الحاجة والاحتياج. نعم إنك إذا آمنت بالله حق الإيمان، فأنت السعيد السعادة الحقَّة، سعيد في دارك وأهلك، سعيد مع زوجتك وأولادك، سعيد في عملك ووظيفتك، سعيد في حياتك ومن بعد مماتك، وتكون قد حزت السعادة ونلتها، فطوبى للأتقياء الأنقياء، الأصفياء السعداء، وألحقنا الله بهم وجعلنا منهم، وأبعدنا عن حب الدنيا وزينتها من أن تكون أكبر همِّنا ومبلغ علمنا. فالسعادة بالله ومن الله. وفي الحديث القدسي: (ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كلَّ شيء، وإذا فتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء).

والحمد الله في بدء وفي ختم


 

 



[89] سنن ابن ماجه ج2 رقم /4136/.

[90] الودق: معنى لفظ الودق في فقه اللغة العربية مشتقة من الود الإلهي والدقة التي تهطل بها قطرات ماء السماء الحاملة للحياة من الحي سبحانه، فقطرات الماء هدايا يواددنا بها القريب جلَّ شأنه، فيجعل بها النماء والثمرات والفواكه طيبة المذاق، بها يواددنا لنلتفت بقلوبنا إليه فيمنحنا ما أعده لنا من الخيرات الدائمية في الحياة وبعد الممات.

[91] سورة الرحمن: الآية (46).

]92] سورة المؤمنون: الآية (1).

[93] سورة طه: الآية (124).