النبي الأمي

الأمي أي: مَن تؤمُّ له الخلائق كلُّها، وبهذه التبعية لإماميته الكبرى، تتم الشفاعة فالجنَّة. أجمع الجهابذة العلماء بل وأساطين اللغة العربية القاصي منهم والداني، من المتقدمين والمتأخرين بأن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أي: الذي لا يجيد القراءة والكتابة، فلا تكاد تفتح معجماً أو تفسيراً إلاَّ وتجد فيه هذا المعنى. ولكن عجباً؟! ذلك الرأي والإجماع.

القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه ولا تفنى غرائبه والوقوف على درجة واحدة، أو التقليد الأعمى نتاجه الفشل وضياع المسعى حيث التقييد وفقدان الإنسان لملكات ذاته، والإنسان كائن مفكر، ولذا خصنا تعالى بقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[79].

وهل أوصل الأمة الإسلامية إلى هذا الذل والجهل، إلاَّ التقوقع والخضوع للهالة القدسية التي ألبسها كتبة الدُّسوس لكتبهم التي نسبوها لأئمَّة هم منها براء.

فكلمة: "الأمي" مصدرها "أمَّ"، ومنها الأم الوالدة التي يؤم إليها ولدها باحتياجاته، ومنها "الإمام" الذي يأتمُّ به المصلّون، أو رئيس القوم؛ يعودون إليه في أمورهم، أو الخليفة، أو قائد الجند، أو دليل المسافرين: وكلها تعني "المرجع" الذي يُؤمُّ إليه بالمقصد المشترك. والتيمُّم: التوجُّهُ للتراب الطهور عند فقدان الماء أو ضرره على المتوضئ المريض.

فالأمي: لغةً نسبة إلى الأم أو الأمَّة، فأمَّ يؤم أمّاً وتأمم.

وائتمّه: قصده، وأمَّ القوم إمامة؛ وإماماً بالقوم: تقدمهم بمقصدهم فكان إمامهم. اليهود قالوا: {..لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ..}[80].

فقولهم ليس علينا في العرب الذين أمُّوا لمحمد فتبعوه، أيَّ مؤاخذة وما علينا بأس، أي: افعلوا بهم ما يحلو لكم من سلب وفحش فهو حلال عليكم يا يهود، لأنهم عرب أمُّوا لمحمد وما أمُّوا لعلمائنا وأحبارنا، وبذا جعلوا العرب كلهم ومنهم أهل مكة والمدينة والطائف كلهم لا يقرؤون ولا يكتبون! كيف كان كتبة الوحي والخلفاء يكتبون؟ حقّاً لقد ضيَّقوا واسعاً. إذن: فعلى كافة الوجوه "الأميين": تعني الذين أمُّوا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي تبعوه حيث يمتدحهم تعالى بهذه الصفات بقوله:

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[81]. قالوا أن "الأمي" هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، فما علاقة أمَّ يؤم بالقراءة والكتابة؟ أي بــ: يقرأ ويكتب، أوْ لا يقرأ ولا يكتب، ومن أين خرقوا هذا المعنى البعيد، واللغة العربية أبداً لا تحتمل هذا التعسُّف اللغوي[82]؟.

إذن: كلمة "أمَّ" أي: تبع غيره، فأمُّوا مع الإمام، أي تبعوا الإمام في الحركات والسكنات والتسليم بالصلاة.

و"أمَّ الكعبة" أي: ذهب تجاهها وإليها، وليس معناها قرأ الكعبة أو كتب الكعبة، فهي ليست من القراءة والكتابة بشيء.

والإمام هو الشخص المتعلم والقارئ المجيد للقراءة، وعادة يكون أقرأهم وأفقههم، فما وجه العلاقة هنا بأن الإمام هو أمِّي، بمعنى أن الإمام هو الذي لا يقرأ ولا يكتب؟ هل هناك بمساجد الأرض إماماً لا يقرأ بصلاته، حتى حمَّلوا المعنى من عدم القراءة ما لا يحتمل، وحتى أشاعوها للناس بمعناهم الخاطئ، فتبعهم الناس تصديقاً، فهل نرضى أن نكون مثل من يقلِّد ولا يفكِّر؟!. بـل: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[83]. ثم هل الأُمّ هي التي لا تكتب ولا تقرأ، أم أنها التي يؤمُّ إليها طفلها بكل طلباته وحاجاته؟!.

والأميُّون في الصلاة هم الذين يؤمون للإمام بالاتباع، فإن رفع يديه وكبَّر تبعوه ورفعوا أيديهم وكبَّروا، وإن ركع ركعوا بعده وسجدوا بعده، ولا وجود لمعنى "للأميين" أبداً بعدم الكتابة والقراءة، فاليوم كافة الأمهات والمصلين تقريباً يقرؤون ويكتبون، وهذا ينسف معناهم المختلق إطلاقاً بأن معنى الأميين أي الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، لكنه التقليد جعل الناس ينقلون هذا المعنى الخطأ والذي لا أصل له أبداً.

كلمة لا يكتب ولا يقرأ وردت في آيةٍ ثانية لا علاقة لها بالأمي وهي: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[84].

وهذه الآية تبيِّن أنه صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب، ولا علاقة بكلمة "أمِّي" أبداً.

كلمة: "أمي" المتعلقة بنبينا صلى الله عليه وسلم تعني فقط من تؤم إليه كافة الرسل والنبيين والمؤمنين بالعالَمين.

يتساءل الإنسان والناس في كل زمان، كما تساءلت قريش قديماً ومن عاصرها من الأقوام والقبائل من أين جاء هذا الرجل العظيم والسيد الكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء به، من بليغ القول ورفيع الدلالة، وسامي الأخلاق، وعالي الشمائل والصفات، يفوق بشجاعته الصناديد والأبطال، ويبذ برأيه الثاقب وحسن تدبُّره الأمور أعظم الساسة وأكبر الحكماء، ويبدو في علمه كأنه البحر الزاخر لا يقف عند حد وليس له انتهاء، ويسمو بحلمه ورفقه ولطيف معاملته، فوق كل ذي مكانة ومقام، فليس يستطيع أن يدانيهِ بشر، ولا أن يدرك سموه وكماله إنسان.

رجل نشأ بأرض مقفرة لا أثر فيها لمعهد من معاهد العلم، وفي جوٍ لا مدارس فيه ولا علماء، فيفوق في علمه كل عالم، ويسمو بخلقه العالي على كل ذي خلق فاضل، ويقارع بالحجة الدامغة كل معارض ومعاند، فتتحطم أمام حججه كل مناقشة لها صلة بباطل وتزهق المعارضة؛ وينبلج الحق ويلمع كالصبح السافر والكوكب الساطع في الظلام المدلهم الحالك، فمن الذي بث في نفسه ما بث من سمو، ومن أين له ذلك المقام وتلك العلوم والأحكام؟.

ولم يتعلم بالجامعات، وما ارتاد المعاهد؟! وأيمُ الحق تلك هي العظَمةُ بقوله تعالى: {..وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ..}[85].

فكم وكم تعلَّم علوماً طبقت الأرض والسموات وحوت كافة المكرمات تعلمها صلى الله عليه وسلم من حضرة الله! وحتى لم يقسم ربُّ العزَّة قسَماً بسواه!..

"فمن وجد الله وجد كل شيء ومن فاته، فاته كل شيء". وكفى بالله معلِّماً لرسوله، فهو صلى الله عليه وسلم يؤم بنا بالصلاة لربنا وإلى الجنات.

   الدستور الإلهي:

وهذا القرآن الكريم "الدستور الإلهي" موجود بين أيدي العالم أجمع، علماء وفلاسفة جهابذة وفقهاء، وفطاحل أذكياء؛ حملة شهادات عليا بمختلف الدراسات هل صنع أحدٌ به ما صنع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرَّج أبطالاً عظماء رضوان الله عليهم أجمعين؟.

فالأجدر بالإنسان أن يسير بالحكمة لكي يفقه ما يقول، ثم إن الآيات تشير إلى ذلك المعنى السامي العظيم "للأمي": الذي تؤم له الخلائق البشرية كلها.

فهذا الرسول: {..النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ..}[86]: عند اليهود والنصارى، هل على زعمهم كان مكتوباً في التوراة والإنجيل الشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب تخفيضاً لشأنه؟!.

أليس ذلك دلالة لهم باتباعه والائتمام به؟! ثم إن الله تعالى يأمر رسوله موسى عليه السلام بالآية: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[87].

فها هو سيدنا موسى عليه السلام يدعو قومه للإيمان بالله وأن يؤموا "اليهود" إلى رسوله: "الأمِّي" عند ظهوره لأنه على ذاك الزعم لا يقرأ ولا يكتب!.

ولعل سائلاً يقول:

أن الآية (5) من سورة الفرقان: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}: فيها إشارة إلى اتهام قريش للرسول صلى الله عليه وسلم بكتابته القرآن، وكأن هذه الآية دليل على أن رسول الله كان يجيد الكتابة وبالتالي القراءة: فكما ذكرنا القرآن بالترابط يُفهم فالآيات تقول: لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذر الناس:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ..}: افتراه على الله: {..وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ..}: أصحابه: {..فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً..}: لأنفسهم: {..وَزُوراً}: كذباً، فماذا قالوا كذباً ومناجزة: {..أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا..}: جعل أصحابه يكتبونها له: {..فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}: تتلى عليه ومن ثم يسردها صباحاً ومساءً على أصحابه وعلى الناس.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَره تعالى أن يفاتحهم بما قالوا في سرِّهم ما بين بعضهم وكشف لهم أحوالهم. فكلمة: {..اكْتَتَبَهَا..} تعني: كتبها له أصحابه صلى الله عليه وسلم وليس هو الكاتب بذاته، فاكتتبها تعني كتبها له غيره وهي غير كتبها التي تعني كتبها بيده، والآية أتت: اكتتبها فلا خلاف. وهذه الآية شرح للآية: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}[88]، والتي تنسف ادِّعاءهم وارتيابهم وتثبت أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كلام الله وليس كلام بشَر.

لا من علوم الشرق ولا الغرب ولا يستطيع بشر الإتيان بمثلها ليكون هناك اكتتاب لها بل القرآن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حضرة الله معجزة الله للعالَمين، وفيه خيرهم أبد الآبدين.

وصدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين


 



[79] سورة النساء: الآية (82).

[80]. سورة آل عمران: الآية (75).

[81] سورة الجمعة: الآية (2).

[82] ومن الجدير ذكره أنه جاء في لسان العرب: أن معنى كلمة ((الأمي)): العيي الجلف الجافي القليل الكلام.. وفي موقع آخر ((وقيل له أمي، لأنه على ما ولدته أمه من قلة الكلام وعجمة اللسان))، ولمعرفة المراد من ذلك التعريف، نعود للمفردات نفسها في ذلك القاموس الشهير: العيي: من تكلّف عملاً فعيي به وعنه إذ لم يهتد لوجهة عمله، وعجز عن الأمر ولم يُطلق إحكامه. الجلف: أي أن جوفه هواء لا عقل فيه، وفي الحديث الشريف ((فجاءه رجل جلف جاف)) الجلف: الأحمق. الجافي: تارك البر والصلة، خرق في المعاملة والسّورة على الجليس.

عجمة اللسان: مبهم الكلام لا يتبيّن كلامه ((يتأتئ ويتلعثم)).

هل هذه الصفات التي تميز بها سيدنا محمد e عن كافة العالمين؟!.

هل لهذا كان ينتظر أهل الكتاب ظهوره في المدينة؟!!.

 

[83] سورة يوسف: الآية (108).

[84] سورة العنكبوت: الآية (48).

[85] سورة البقرة: الآية (282).

[86] سورة الأعراف: الآية (157).

[87] سورة الأعراف: الآية (158).

[88] سورة العنكبوت: الآية (46-49).